حول المشادات الأخيرة بين إسلاميي و علمانيي موريتانيا

زين العابدين علي بتيش

يكثر الجدل هذه الأيام بين بعض المدونين في الموقف من فتاوى بعض العلماء في القضايا العامة بين طرف يؤيد مواقف هؤلاء العلماء المثيرة للجدل أحيانا ، و طرف ينتقد هذا التدخل و يصفه بالتدخل المرفوض في ظل وجود دولة مدنية يفترض أن يتم التمييز فيها _وليس بالضرورة الفصل_ بين ما هو دعوي و ما هو سياسي ..
و يجد هذا الجدل جذوره في الخلاف التاريخي بين الإسلاميين و العلمانيين ، فكيف ظهر هذا الخلاف ؟ و ما هو سياقه الفكري و السياسي و الإجتماعي ؟ وهل من سبيل إلى كلمة سواء و نقاط مشتركة أن لا يخون بعضنا بعضا و أن نتحلى بمستوى من الرقي الأخلاقي و نتخلى عن الإساءات و الإساءات المضادة ؟
منذ نهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين و العالم العربي و الإسلامي يعيش حراكا فكريا و ثقافيا و أدبيا ، تبلور على شكل تيارات فكرية و سياسية و أدبية ، تشكلت في ضوء الصدام الحضاري بين الشرق و الغرب ، المتمثل في حملة نابليون على مصر و غيرها من الأحداث التي هزت الأمة الإسلامية ، و اختلفت تلك التيارات في التعاطي مع الأزمة (أزمة الهوية )، ما بين تيارات انبهرت بالغرب انبهارا كليا ، فاختارت تصوراته عن الحياة و القطيعة مع الماضي باعتباره سبب نكسة الأمة و تخلفها ، و بين تيارات انغلقت أمام الوافد الجديد و اعتبرت الماضي بكل مافيه هو الحل ، و أن كل جديد هو بدعة و ضلالة و منكر يرفضه الدين ، و بين تيارات اختارت الوسط بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى ، بمعنى أن نأخذ من الماضي ثوابته و الأوجه المشرقة فيه ، و من الوافد الغربي كل مفيد ، و أن الآليات حيادية تستخدم في الخير كما تستخدم في الشر ، و أننا يمكن أن نضفي " لمستنا الخاصة " على هذه الآليات بما فيها الديمقراطية و غيرها .. و من هذه التيارات ما يعرف بالتيار الإسلامي .
وبما أن هذا التيار دخل الحياة من أوسع أبوابها : سياسيا ، فكريا ، اجتماعيا ، إعلاميا ، دعويا ، اقتصاديا ... فقد دخل في منافسة قوية مع تيارات منافسة له : يسارية ، علمانية ...
وقد اختلفت تجربة التيار الإسلامي من بلد لآخر ، بين تجربة ناضجة مستوعبة للآخر و تجربة أقرب للتطرف ، وواجه هجوما شرسا من ألد خصومه من اليسار و العلمانيين ، هذا الهجوم الذي يجد جذوره في الخلاف الفكري باعتبار الإسلاميين يؤمنون بشمولية الإسلام و العلمانيين يؤمنون _ في بعض الأحيان _ بإسلام لا علاقة له بالواقع المعيش ولا كلمة له في الحياة السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية " و إن كانت العلمانية تنقسم إلى علمانية شمولية وعلمانية جزئية ليس المجال مجال تفصيل في ذلك "
و يجد هذا الجدل جذوره أيضا في الخلاف السياسي بين الطرفين ، ففي الوقت الذي تصوت فيه بعض الشعوب العربية للإسلاميين في الإنتخابات ، نجد بعض العلمانيين يقود حركات احتجاجية قوية للإطاحة بهم ، و دعم الإنقلابات العسكرية ،  في ضرب واضح لأسس المبادئ الديمقراطية القائمة على التداول السلمي للسلطة ، و الإعتراف بنتائج الإنتخابات أيا كانت .
ويجد أيضا جذوره في الحياة الإجتماعية المتباينة لطرفيه ، ففي الوقت الذي يقوم فيه الإسلاميون بإنشاء منظومة اجتماعية دعوية خاصة بهم ، معتبرين أنها أقرب للتمثل بالإسلام في ناحيته الإجتماعية ، يرى اليساريون والعلمانيون الحرية دينا لا بديل عنه ، و يرفضون التأثير في الشأن العام اجتماعيا من طرف أي تيار ، باعتبار حرية المجتمع الراشد الذي لا وصاية لأي مكون أيديولوجي عليه ،_ و أنا هنا أنقل رأي كل فريق _ و أن ممارسة الوصاية على المجتمع  و احتكار الفضيلة أمر مرفوض رفضا كليا ، و أن لا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة ، فالحقيقة _على حد تعبيرهم _ فردية لا جماعية ، و كل شخص يمتلك الحقيقة من وجهة نظره ، ولا يحق لأي شخص التدخل في حياته او ممارسة التأثير عليه _ وهذا في الحقيقة جدل فلسفي كبير أثير في ضوء روافد الثورة الفرنسية .._ .
كانت تلك هي السياقات الفكرية والسياسية و الإجتماعية للجدل المثار بين الإسلاميين و العلمانيين و جذوره التاريخية ، 
و نخلص إلى الفكرة الأخيرة و هي البحث عن " كلمة سواء " و نقاط مشتركة بين الطرفين للإنطلاق منها نحو تعايش سلمي بينهما ، و من أجل فرض مستوى من الإحترام بين أنصارهما ، و نبذ التنابز بالألقاب و الإساءات .
إذا عدنا لأدبيات الطرفين نجدها تحث على احترام الرأي الآخر و استيعابه ، و أن الإختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية .
والحقيقة أن التنوع  _ حيث هو _ إيجابي جدا ، و هو يدل على مستوى الوعي لدى الشعب ، فكلما كنا أمام شعب واع كلما كنا أمام تنوع فكري و سياسي و ثقافي ، وبالتالي كان هذا التنوع عامل ثراء و مبعث جمال و ليس وسيلة تخريب أو هدم .
في المجتمعات المتحضرة الجميع يحترمون رأي الآخر و فكرته و قناعاته و أطروحاته ، ولا يصنفون الآخر على أساس فكره ولا معتقده بل على أساس معاملاته و صدقه و وفاءه و احترامه للمواعيد .
وليس لدي أدنى شك بأن هذه الأسس في احترام الرأي الآخر تجد جذورها في الإسلام ، كيف لا و القرآن يقرر أنه " لا إكراه في الدين " و أنه " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من درياركم أن تبروهم و تقسطوا إليهم ... " 
و هذا أقره القرآن في حق المخالفين في الدين ، فكيف بمن يدينون نفس الدين و يجمعهم نفس الوطن و نفس التطلعات و نفس الهم الوطني .
لأجل ذلك أناشد كافة المدونين من كلا التيارين ، أن يتوقفوا عن الإساءات و الإساءات المضادة ، و أن يهتموا بما يعلي من شأن الوطن ،  فالوطن بحاجة لطاقات الجميع ، و هذه المشاجرات هنا و هناك و الإساءات لا تخدم وطننا في هذا الظرف الحساس الذي نحتاج أن نكون فيه يدا واحدة لأجل وطن مزدهر .

اثنين, 12/08/2019 - 19:21