كيف تتشكل الأيقونة الثورية وتتجسد الرمزية؟

سعد الطيب

لستُ خبيراً بالعلوم السياسية ولا أحوالها، ولا بأمزجة الساسة وكيف لهم أن يتفقوا في موقفٍ ثم يختلفوا فيه لاحقا على حساب الآخرين مقدمين مصالحهم حينئذ على جماجم الشعوب! وهذا سيكون جليا في قادم السطور ولكني كمهتمٍ بالفن الرقمي وما يندرج عنه من الفنون البصرية والجمالية، ولأني أريد في نهاية المطاف تكوين مفهوم نشترك فيه في قراءة كل عمل فني علنا نساهم في رفع مستوى الوعي ونبني جسراً متيناً مع الفنون.

   

فمما لا يعرفه الكثيـر أن الفن سواء الرسم أو التصوير أو التصميم أو غيرها من الفنون الجميلة هو تجسيد حالة أو انطباع يحدث بزمن معين وينتهي، ووظيفة الفنان هاهنا هو تحويل ذلك الانطباع أو "الحالة" إلى عمل فني ولا يهم بتراكمات تلك الحالة فيما بعد، فالعمل الفني ينقل الحدث لحظة وقوعه ولا ينقل ما قبله أو بعده، أو قل انه اقتناص أكثر الصور دلالة ورمزية ليخلد الفنان لحظة فارقة في مسيرة الشعوب وثوراتهم ومنعطفات حياتها ومن ثم يجردها من أبعاد اللحظة الآنية المشوشة لتصبح أكثر وضوحاً ودقة وليصنع منها أيقونةً هادفة، وليترك فيها أعمق المعاني أثراً صادقا، فضلاً عن أنه يستلهم معانيه من صنع تلك اللحظة التاريخية من مشاعر صانعيها.

  

   

وبما أن لكل عصر أدواته ووسائله التي يخلد بها أحداثه ابتدأت مع الإنسان تصاويره منذ فجر حياته ورسوماته على جدران الكهوف مرورا بكل أشكال الكتابة والتصوير وحتى شكل التنقيطة على آلة الحاسوب في زمن هيمنة العالم الافتراضي على الواقع وأبعاده رغم اختلاف الوسائل، وما دام الحديث متصلاً بزمن الثورات والحراك فقد شهدت البلدانُ العربية مظاهرات يطالب أهلها فيها بحقوقهم وحرياتهم، ولأن الفن هوية لا يغيب دورها عن اي حراكٍ شعبي تشهده الدول الثائرة، فقد كان لفنانيها وقفات تجسد وتحول مشهداً معيناً إلى عمل فني ثم يصبح ايقونة لتلك الثورة تتوحد خلفه كل الافكار وتتلون كل المنصات والساحات بتلك الايقونة سواء كانت لوناً لشخصٍ أو تماثيلاً ولوحا.

 

ولأني من العراق فقد كان لبلدي نصيب من ذلك الظلم الواقع عليه فقد خرجت الجموع في مختلف شوارع المحافظات العراقية ملبية لنداء الثائرين، ففي الأول من تشرين الأول وعلى غير عادتها التموزية في بلاد الرافدين وتحت ضغط البطالة وغياب الامل بالإصلاح انتفضت ثورة الشباب بعفوية وارتباك تهتف بحناجر مبحوحة وصدور عارية ضد الظلم والفساد، ولما التحمت الجموع وتعالت الأصوات وسالت الدماء وتصاعد الدخان وسط هذه المعمعة لفتت الأنظار سيدة بسيطة كانت تبيع المناديل والتي أتضح لاحقا ن اسمها (دُنيا) وهي توزع بضاعتها على أبناء شعبها وجادت بكل ما تملك بصورة عفوية بطولية أبكت كل من راها وكان يبدو على وجهها الخوف ولاضطراب، ولكن الصدمة ورعب السلطة تمكن من اسكاتها كما اسكت شبكات الانترنت ومكاتب القنوات الفضائية، لقد كانت لحظة فارقة اختزلت كما هائلا من المعاني.

 

كانت اللحظة مواتية لفنان يوقف تدفقها، ويجسدها بأكثر المشاهد رمزية ليصنع منها أيقونة تروي قصة هذه المرحلة وهذا المنعطف الخطير في مسيرة الحياة وتدافعها، وإن كان الفقر والعوز قد سلب من هذه السومرية كثيراً من مكملات الأنوثة وخصائصها إلا أن الحرية حرة في اختيار رموزها الذين تتجسد فيهم، وكفنان أرقب بعين الصياد حركة الحياة ولحظاتها اقتنصت تلك اللحظة وجسدتها بلوحتي (خرساء العراق) والتي تلقفتها المواقع والصفحات وتدفقت عبر مسارات هذا العالم الافتراضي ليكون لها كل هذا الصدى والقبول والتبني.

   

  

كذلك رأينا مثلا في حراك السودان الاخير تلك الثائرة والتي تدعى آلاء صالح وكيف اصبحت معروفة باسم (الكنداكة) بوشاحها الابيض وعنفوانها وشجاعتها، بعدما ألهمت بقصائدها وكلماتها جموع الثائرين، وإلى كتابة هذه السطور رأينا في لبنان تلك الفتاة الثائرة وهي تركل الشرطي بعد أن معنها من حقها في التظاهر، لتترك لنا جميع هذه المشاهد مفهوم من أن الحرية لا تظهر إلا في أنثى ثائرة ومن خلالها إلى الشعوب!

 

ومما تقدم نصل إلى اتفاق أن نعامل الرمز والعمل المنشور – أثناء - كل حراك شعبي بزمانه وساعته بل وثوانيه ليبقى محتفظاً بمعانية ومشاعره وألا نخل بمفهومه لاحقا حينما تتغير المواقف ليجد ذلك الرمز قد تحول إلى مفهوم آخر، فلنحافظ على فلسفة الأحداث وتسلسلها لتبقى محتفظة بدلالاتها الآنية والزمكانية لزمن أبعد من زمن الحدوث ومكانٍ أوسع من تصور الحادثة وألا نحرف أو نعيد صياغة تلك الايقونات بعد انتهاء الحدث فهي آنية لا يمكن التلاعب بها مهما تراكمات المتغيرات لاحقا.

الجزيرة نت

ثلاثاء, 22/10/2019 - 16:05