موائد الشعوب .. تاريخها!

أحمد الفاضل

منذ انتشار وباء كورونا، بدأ الحديث عن أن أكل الوطاويط في الصين هو ما تسبّب بالجائحة. فالتهبت السوشال ميديا بالتعليقات وحتى الأعمال المصوّرة الهازئة التي تعبّر عن امتعاض وقرف من مآكل الصينيين الغريبة ووسخهم، وقد بلغت حد تحميلهم المسؤولية عن الكارثة.

والحق أن المصدر والمسبّب لا يزالان غامضين، خصوصاً أن نظريات عدّة ظهرت وتضاربت: حرب صينية أميركية، تجارب لأسلحة جرثومية تقودها فرنسا مع الصين، ومثلها تجارب أميركية، تدمير الاقتصاد العالمي، تقويض العولمة، مصدر الوباء جزيرة قبالة الصين، احتمال أن يكون الانتشار بدأ في إيطاليا، اختلاط الأمر على الباحثين بين الوطواط والبنغول كمصدر للفيروس الماكر، ولغز انتقاله منهما إلى البشر...

مهما كانت النظرية، يقول الواقع إن جائحة خطيرة تجتاح الكرة الأرضية، وعلى البشر أن يحتموا منها ريثما يجدون الدواء الناجع. غير أن الطعام "الغريب" لدى الصينيين هو الذي بقي متصدّراً التعليقات والمتابعات. ومنذ القدم، درج قول يقول "الصينيون يأكلون كل شيء"، فهل هذا سبب كافٍ لكي يعايَر شعب على مآكله الغريبة التي وصلت إلى مطابخه نتيجة ظروف تاريخية وبيئية وسياسية وفقر ومجاعات... ومن تلك الوجبات ما غدا وجبات فاخرة منتشرة في المطابخ عالمياً.

لعلّ جولة على موائد العالم تعطي فكرة عن تواريخها. فالطعام، غذاء الإنسان من مولده إلى شيخوخته والعامل الاول في صحته الجسمانية والعقلية. الطعام تصفه الادبيات بأنه نشاط إنساني بحت تفرضه الغريزة وتعظمه الشهية، ولابد أن يتأثر في النهاية بحالة الشعوب في السياسة والاقتصاد. والتاريخ شاهد على الحضارات التي بدأت وانتهت من اجل المحاصيل. وحين تقتفي المكونات في الوجبات المفضلة اليوم ستختصر على نفسك عناء البحث عن ترتيب الدول الاقتصادية الكبرى.

في الطعام تلعب الاماكن دوراً جوهرياً في تحديده، جبلاً كانت او بحراً او وادياً وأحوال طقسها، فضلاً عن أوضاعها الاجتماعية من ديانات ومعتقدات وتعاليم وعادات وتقاليد، وكذلك عوامل الاستقرار المعيشي وتقسيم الطبقات الاجتماعية وقدرتها الشرائية أو على تأمين القوت، من دون ان نهمل اهمية الاداب والعلوم التي تأخذ الانسان إلى ما "يعتبره" ارقى في الذائقة وحاسة الذوق. كل هذا وأكثر هو ما يميز مطبخ بلد ما عن الاخر. فتصبح الموائد بطريقة تلقائية تعبر عن هوية البلد!

إذاً، الطعام يساعد في تعريف الهوية رغم ماحدث في السنوات الاخيرة من تغييرات جذرية في العادات واوقات الطعام والاختفاء التدريجي لطاولة الطعام العائلية والميل الى الاكل السريع، حتى أصبح تجهيز المكوّنات الغذائية وتحضير الوجبات بالتسلسل التقليدي المتمهّل للطهو، من الممارسات النخبوية. فالمكوّنات نفسها باتت معلّبة جاهزة، ويكفي خلطها قبل "تسويتها" بالمايكرووايف السريع.

والحقيقة أن الانماط السلوكية في السنوات الاخيرة غيرت الكثير من العادات الغذائية حول العالم، لماذا الدواجن والبقر والخنزير والخرفان والماعز هي الاكثر استهلاكاً!

موضوع الذائقة نسبي تماماً ولا يُعتمد عليه في مثل هذه المقارنات، وبالرجوع للتاريخ سنجد ان الفرد لم يكن مخيراً في طعامه، وأن استطابة الاشياء تأتي مع الوقت.

فعلى سبيل المثال، بموجب القانون الهندي، يُحظّر ذبح الابقار في معظم الولايات في البلاد، باستثناء ولاية كيرلا والبنغال الغربية والولايات السبع الشمالية الشرقية. وعلى النقيض من ذبح البقر، فإن استهلاك منتجات الألبان مثل الحليب واللبن الزبادي، وخاصة السَمن شائع للغاية في الهند. ولذا نجد أنها من اكبر مصدري اللحم البقري بواقع مليوني طن في السنة مع أنها الاقل استهلاكاً له في العالم.

بالطبع، يعود الحظر لسبب عقائدي في الديانة الهندوسية. ومثلها الزرداشتيه التي تحرّم أكله، ولكن لسبب آخر وهو ان البقرة هي التي أنقذت حياة زرادشت من القتلة عندما كان طفلاً. وسنجد عند الصينين العرقيين سبباً مختلفاً في عدم اكله وهو انهم يشعرون أنه من الخطأ أن يؤكل حيوان مفيد للغاية في مجال الزراعة.

وفي المقابل، تؤكل لحوم الكلاب في كوريا وفيتنام والصين، ولا تجد لها قبولاً في العالم الغربي باستثناء المانيا التي كان تناول لحم الكلاب مستساغاً منذ عهد فريدريك العظيم وحتى عام 1986، حين حُظّر تناوله قانونياً. واكل الروس القطط خلال المجاعة في حصار لينينغراد.

وأثناء حصار باريس في 1870، من قبل البروسيين، أكل الفرنسيون الفئران والجرذان والكلاب وحتى الفيلة، إذ شكّلت حديقة الحيوانات فيها مصدراً لقوتهم أثناء الحصار... وأدرِجت أطباقها على قوائم الطعام في مطاعم تلك الحقبة. ومعروف أن باريس هي التي رسّخت مفهوم المطعم كما نعرفه حالياً.

جرى كل ذلك في ظروف صعبة! أما اليهود فيقاربون المسلمين في تحريم لحم الخنزير والخمر والبرمائيات والحشرات باستثناء الجراد، ولكنهم يحرمون أكل الجمل، والحيوانات المائية التي ليس لها قشور وزعانف، مثل المذهب الشيعي الذي يحظر المأكولات البحرية غير السمكية التي تفتقر إلى الحراشيف باستثناء الروبيان. وفي المقابل، يتناول اهل المذهبين الحنبلي والشافعي لحم الضبع، على عكس الأحناف والمالكية.

ويفسّر الفريد كروبر، استاذ الانثروبولوجيا الثقافية في جامعة كالفورنيا، مسألة تحريم اليهود للخنزير والمحار بأنهم كانوا يعيشون في مناطق قاحلة ولايمكن لتربية الخنازير ان تأتي بربح اقتصادي، ولذلك هي لم تكن تربى عندهم. واما المحار فهو بسبب الفينيقيين الذين أبعدوا اليهود عن الشواطئ، ما منعهم من الحصول عليه. وهو الأمرالذي أدى في النهاية الى زعزعة الرغبة في أكلها بالقول إنها غريبة أو تحمل شراً. فتحوّل الفعل الديني الى عادة وتقليد فتحريم. وللفيلسوف والطبيب الشهير موسى بن ميمون رأي آخر حيث يعتقد أن التحريم بسبب نجاسة الخنازير وعاداته المنفرة.

والروابط التي تجمع الشعوب لها علاقة وثيقة ايضاً بالطبقات الاجتماعية والنهج الطائفي والانفتاح الثقافي والوفرة الغذائية، فإذا نظرنا إلى الطبقة الراقية في مصر، نجد أنها كانت تتبع أسلوب الطبقة الأرستقراطية العثمانية، وانتقلت بعد ذلك إلى تمثّل الأسلوب الأوروبي. وأحياناً، مذهبية كتأثر شيعة المدن العراقية بالمطبخ الفارسي، والسنّة منهم بالمطبخ التركي العثماني، مع أنهم جميعا من ذات المنطقة.

واحياناً، بالانفتاح الثقافي كالفرق بين السفارديم والاشكناز فغنى المطبخ السفاردي (السفارديم/اليهود الشرقيون) وتنوعه مقارنة بالمطبخ الإشكنازي الذي تمتد جذوره إلى ألمانيا في القرون الوسطى، يُردّ إلى البيئة التي عاش فيها اليهود في الشرق الأوسط من حيث اعتدال المناخ والوفرة الغذائية والاندماج مع الشعوب بعكس الاشكناز!

و للمسيحيين اثر مهم في انتشار الطعام البحري، وزيادة حجم استهلاك الدجاج وانتشاره. فالشخصية المسيحية تحب البحر اكثر من غيرها، ويُروى أن المسيح في حياته وزّع سمكاً وخبزًا للجياع، وتناول سمكًا مع تلاميذه بعد قيامته. وفي العصور الأولى للمسيحية وقت الاضطهاد من الوثنيين، كان المسيحيون يتعرَّفون إلى بعضهم برسم إشارة السمكة!

وقبل ما يقارب ألف عام كانت هناك زيادة ملحوظة في استهلاك الدجاج وتربيته، ويشير بعض المؤرخين إلى أن العامل الأساسي وراء هذه التغيرات كان انتشار المسيحية التي لم تشجع على تناول لحوم الحيوانات من ذوات الأربع قوائم وجعلت من الدجاج وجبة مفضلة!

ويذكر التاريخ ان المسلمين جلبوا الرز إلى صقلية في القرن التاسع. ومنه انتقل بعد القرن الخامس عشر ليزرع في إيطاليا ثم فرنسا. وكان من المحاصيل الآسيوية النادرة في العصور القديمة. واعتبره غالينوس نوعاً من انواع الأدوية العلاجية.

وقد يكون إجازة تناول طعام معين أو منعه قائمين على رغبة حاكم، مثلما فعل الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، في بعض الوقت من عهده، مع الملوخية حين حظرها بشكل خاص، ومع مواد غذائية أخرى كان يقال إنها تؤكل من قبل اهل السنّة... والى اليوم بعض الدروز يتمنّع عن أكل ملوخية.

وقد يكون سبب المنع ذكرى مؤلمة، كما حدث لليزيديين الذين يعتبرون تناول الخس والفاصوليا من المحرمات. ويربط الباحث فلاح حسن جمعة إيمان الطائفة بالشر الموجود في الخس، بتاريخها الطويل من الاضطهاد من قبل المسلمين والمسيحيين. وتزعم النظرية التاريخية أن أحد القساة الذين لا يرحمون والذين سيطروا على مدينة الموصل في القرن الثالث عشر أمر بإعدام القديس اليزيدي المبكر. ورشق الجمهور المتحمسون الجثة بكعوب الخس. فحُرّم الخس إلى الابد.

وثمّة أطباق تعدّ لمناسبة دينية، مثل العاشورية، الذي يتكون من عشرة أنواع من الحبوب، ويقدم هذا الطبق للاحتفال بالعاشر من محرم. أو كحيلة دعائية، كحيوان اللوبتسر حين تحول من طعام للقطط الى طعام ركاب الدرجة الاولى في قطار شيكاغو قبل نقله إلى موائد الاثرياء.

أو كتأبين مثل الحلاوة الطحينية وهي حلوى تقدم في اليوم السابع واليوم الأربعين وفي الذكرى السنوية الأولى لموت المسلم في أفغانستان وتركيا وإيران. أو كطعام لخدم القصو والفقراء كوجبة الباييجّا (أو بايللا) الاسبانية وترجع لأيام ملوك الأندلس وبعد أن ياكل الملوك والأمراء الأندلسيين الأكل من كل ما تشتهي الأنفس مثل السمك واللحم والدجاج والأرز، ويتم وضع بقية الأكل لياكله الفقراء، فيكون اختلط الرز بالسمك والدجاج و اللحم فأصبحت الباييجّا (أو البقايا) .

وفي الشرق الأقصى، نجد ان البوذيين يفضلون تناول الرز والخضار على اللحوم، وهذا له اكثر من سبب اولها طبيعة المعتنق البوذي، وثانياً بسبب المجاعات التي تكررت كثيراً في اراضيها. ومن تعاليم بوذا تجنب الإسراف وعدم رمي فائض الطعام وتناول أجزاء الحيوانات المختلفة تجنباً لهدرها.

ومن تعاليم الكونفوشية أن يكون الأكل طازجاً ومحلياً وعدم اكل الطعام في غير موسم صيده أو حصاده، ومن خلال تعاليم البوذية والكونفشوسية وتاريخ المجاعات في الصين نستطيع ان نفهم تركيبة المطبخ الصيني واختلافه.

ربما لا يوجد تقريبًا أي ثقافة لا يتمتَّع فيها الطعام بقيمة اجتماعية عالية، ولهذا أولت اليونيسكو ذلك اهتماماً كبيراً. فمنذ التوقيع على اتفاقية 1972، والمنظمة تعمل على تصنيف أجمل المواقع والآثار في العالم التي تعبّر عن طابع استثنائي، غير أن المنظمة منتدبة أيضا وحسب بنود الاتفاقية الموقعة عام 2003 لحماية تراث الإنسانية غير المادي. فقد سبق لـ132 بلدا أن صادقت على هذه الاتفاقية التي تسعى إلى حماية الثقافة والتراث الشعبي في العالم. وأدرجت حتى الآن 178 ممارسة ثقافية أو خبرة تقليدية على قائمة تراث الإنسانية غير المادي الذي تعرّفه الاتفاقية بـ"الممارسات والتصورات وأشكال التعبير والمعارف والمهارات التي تعتبرها الجماعات والمجموعات، وأحيانا الأفراد، جزءا من تراثهم الثقافي. وهذا التراث الثقافي غير المادي المتوارث جيلا عن جيل، تبدعه الجماعات والمجموعات من جديد بما يتفق مع بيئتها وتفاعلاتها مع الطبيعة وتاريخها، وهو ينمي لديها الإحساس بهويتها والشعور باستمراريتها، ويعزز من ثم احترام التنوع الثقافي والقدرة الإبداعية البشرية.

وقد بدأت اليونسكو هذا المشوار وسجلت: الطعام الفرنسي، والمأكولات المتوسطية في إسبانيا، إيطاليا، اليونان، والمغرب. والمأكولات المكسيكية التقليدية، والطبق التركي الذي يصنع من اللحم والقمح. والطعام الياباني في قائمة التراث العالمي غير المادي، ونأمل ان تتوسع في هذا النشاط حفاظاً على تاريخنا الانساني الذي لا يكتبه الاقوى.

 

نقلا عن العربية نت

جمعة, 24/04/2020 - 13:01