من فقه مرحلة التحقيق في العشرية المنصرمة

الحسن ولد ماديك

أولا: مِن أُصولِ سُنَنِ عِلْمِ الاجتماع المثاني في قوله تعالى: 
﴿قَالَتْ إِنَّ الْـمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ وَإِنِّـي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِـمَ يَرْجِعُ الْـمُرْسَلُونَ﴾[النمل 34] 
﴿أَلَـمْ تَرَ إِلَـى الْـمَلَإِ مِنْ بَنِـي إِسْرَاءِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِـيٍّ لَـهُمُ ابْعَثْ مَلِكًا نُقَاتِلْ فِـي سَبِيلِ اللهِ﴾[البقرة 246] 
﴿وَقَالَ لَـهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا﴾[البقرة 247]
وحسِب المفسّرون وغيرهم وصْفَ (الْـمَلِكِ) في هذا السِّياقِ مُرادفًا للحاكِمِ الذِي يَرِثَ السلطة ويُوَرِّثُها، وإنَّـما هم قادةُ الجيوش الغازِية، ومِن عادَتِهم تغييرُ الموازين بِرفْعِ الْأَذِلَّةِ في الْـمنظومة السابقة بِـجَعْلِهِم أَعِزَّةً وبوَضْعِ الأعِزَّةِ في الْـمَنظومة السّابقة بِـإذلالِـهم والتضييقِ عليهم، ذلكم التغيير بانعِكاسِ المتراجحةِ هو ما توجّسَتْ مِنه ملِكَةُ سبإٍ فوَصَفَتْهُ بِإِفْسَادِ القرى، وتوجّسَ منه فرعونُ فقال ﴿إِنِّـي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُـظْهِرَ فِـي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾[غافر 26] يعني بِظهور الفسادِ فِـي الأرضِ انقلاب الموازين بتبعيِّةِ آل فراعون لبنـي إِسراءيل.
وفي عصرنا الحاضِر فإنّ فَرْقَ ما بيْنَ الانقلابِ أو الاحتلال على السواءِ وبين استمرار الْـمنظومة هو أنْ يَظَلَّ الأعِزَّةُ أعِزّةً وأنْ يَظَلَّ الأذِلَّةُ أَذِلَّةً أو تنعكِسَ المتراجحةُ.
ثانيا: مِن أكبرِ أسبابِ الانفلات الأمْنِـي والهيجان كَبْتُ الأذِلَّةِ لِيتحمَّلُوا مِن القَهْرِ أكثَرَ مِن وُسْعِهِم أو شُعُورُ الأعِزَّةِ بأنّهم قد دخَلُوا في مرحلة شماتةِ الأذِلَّةِ أو إِشْفَاقِهِمْ على السواء، وإنَّ هذهِ لهي العِلَّةُ فـي فشَلِ الثورات الشعبية في مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا.
إنَّ الإسلامَ دِينَ الفِطرةِ لَيَعْتَبِرُ سِلْمَ المجتمع والأفراد مُقَدَّسًا لا يجوز مساسُهُ بِسوءٍ. 
وإنَّ دَفْعَ ضَرَرِ سِلْمِ الفرد أو الـمُجتمع لأكبَرُ مِن جَلْبِ المنفعةِ.
وإنّ الإسلامَ قَد حرَّمَ قَتْلَ النفْسِ بغيْرِ حقٍّ أي ظُلْما وعُدوانًا غيرَ أنّه حَبَّبَ العَفْوَ والصَّفْحَ عن القاتِل بِعِتْقِ رَقَبِتِهِ، وَحرَّم الزِّنَا غَيْرَ أَنَّهُ لَـمْ يُبْطِلْ أَثَرَهُ بلْ حَفِظَ لِابْنِ الزِّنَـى جميعَ حقوقِهِ حضانة وتربية ونِسْبَةً إِلـى أبيه ذِي النطفةِ الذِي وَلَدَه إِن عُلِمَ.
ولا يعنـي جواز دَفْعِ القاصِرين ـ عن الدِّفاع ـ اعتداءَ الغُزاة بالمال غيرَ تقريرِ كليّة (حِفْظُ الأنفُسِ أَكْبَرُ مِن حِفظِ المال)
ولا يعنِـي الخطاب المنزَّل بقبول توبة الْـمُحارِبِ قبل القُدرة عليه غَيْرَ تأصيلِ قاعدة فقهية تتلخّص فـي (إغلاقُ ثَغَراتِ الشَّرِّ والانفلاتِ أكبرُ مِن عُقوبةِ المحارِبِ فِـي الدنيا)
ثالثا: في مرحلة الجبريّات والتفرْعُنِ لا يصِحُّ شَرْعًا التسوِيَةُ بين الْـحاكِم الذِي يتمسَّكُ بالسُّلْطَةِ حتَّـى تُنْتزَعَ مِنه انتزاعًا ظاهرا بانقلاب عسكَرِيٍّ إثْرَ سُقوط ضحايا مِن العامّة وبين الْـحاكِم الذِي يُذْعِنُ لضرورة التناوب السِّلْمِي، ويلزم مُعاقَبَةُ الأوّل بكليّة القدرة عليه قبل التوبة والعفْوُ عن الثانـي بكلية التوبة قبل القُدرة عليه.
ويعني التسوية بينهما قِسْمَةً مِن القاضي ضِيزَى تبَرِّرُ للحاكِمِ أَن لا يتنازَلَ أَبدا لأنَّهُ مُـحاسَبٌ في الحالَيْنِ.
ومِن هذا الْـمُنطَلَقِ اعترضْتُ على تحقيق اللجنة البرلمانيّة مع الرئيسِ السابق محمدِ بنِ عبد العزيز وعلى محاكمتِهِ في محكمة العدْلِ السامية ونحوها مُراعاةً لحسنَةِ قبولِهِ التَّنَـحِّي الذي جَنَّبَنَا بِه كارثة الثورات والهيجان والانفلات الأمنـي.
وأدعو إلى مُـحاكمة أعوانِهِ الظلمَةِ الذِين كانوا يُفْسِدُون فِـي الْأَرْضِ ولا يُصلحون ويَسرقُون ويَنهبون ويُوالُونَ الشركات الاستعمارية ولا يتَّقُون.
وأدعو الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني إلى اعتبار هذا التأصيل بالْـمُسارعة إلـى دَعوة الرئيس السابِقِ لِـيَتَّفِقَا على الخُرُوجِ مِنَ الأزمة بأقَلِّ الخسائِرِ المعنويّة والمادِّيَّة.
رابعا: لا يصح قانونا محاكمةُ رئيسٍ موريتاني سابقٍ ولا لاحِقٍ في ظِلِّ دستورٍ جعل من الرئيس قُدُّوسا أو ذاتًا مصونَةً إِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كلُّه ولا يُسْأَلُ عـمَّا يَفْعَلُ أَثْنَاءَ رِئَاسَتِهِ ولا حساب على جائزٍ، فلْيَتُبْ مَن كَتَبُوا هذَا الدُّسْتُورَ ولْيُبَادِرْ الرَّئِيسُ والبرلمان والحكومة بإعادة صياغة الدُّسْتُورِ لتفعيلِ اللامَرْكزيّة وللفصل بين السّلُطات ولِيَتأتَّـى شرعا مُـحاسبةُ  كل موظَّفٍ وكلُّ راعٍ حسبَ تقصيرِهِ وخيانتِهِ.
نواكشوط 18 ذو القعدة 1441 هـ
الحسن ولد ماديك 
باحث في تأصيل القراءات والتفسير وفقه المرحلة
رئيس مركز إحياء للبحوث والدراسات

خميس, 09/07/2020 - 20:34