الانتخابات الانطباعية والترجمة الحكومية التائهة

وسام سعادة

ظلّت الحياة السياسية اللبنانية على امتداد ربع قرن ترغي وتزبد حول القانون الانتخابي الذي يراعي صحة التمثيل، متساهلة «استحلاء» نظام التصويت النسبي، وردّ كل علّة وتشويه إلى مثالب نظام التصويت الأكثري، حتى تعطّلت التجربة الإنتخابية التشريعية لخمس سنوات جرى الاهتداء بنتيجتها إلى قانون يقرّ النسبية التي انعقدت عليها الآمال الطويلة، ورطن بها العلمانيّ المتوخي فيها ابطال الطائفية السياسية، والطائفي المحض «المتعشّم» فيها تحصيل قسطه بالكامل. لم تعتمد النسبية على مقاس لبنان كله كدائرة واحدة، لممانعة حزبية مسيحية أمام هذا المطلب التقاطعي بين الأجندة العلمانية وبين الحزبيات الإسلامية. ولم تعتمد نسبية «محايدة» بين العلمانيين والطائفيين، وبين المسيحيين والمسلمين. اعتمدت النسبية التي تأخذ من رفع نسبة المقاعد المسيحية المنتخبة من لدن مسيحيين معياراً مركزياً لها، على حساب رزمة من المعايير الأخرى، ليس أقلها المساواة في الصوت الانتخابي بين المواطنين، والمساواة في الظروف الانتخابية بين المناطق، وربط الانتقال نحو النسبية باعتماد نظام الأحزاب الانتخابية.
بدلا من كل هذا، أدى الجمع بين نسبية الدوائر المتوسطة وبين مبدأ الصوت التفضيلي إلى لعبة مزدوجة: تنافس بين اللوائح يوازيه تنافس داخل اللوائح، بما قوّض كل تسييس برنامجي للاستحقاق الانتخابي، من دون أن يلغي التسييس الاستفتائي للاستحقاق، فبدت الانتخابات استفتاء على «عهد» الرئيس ميشال عون وأهلية صهره الوزير جبران باسيل لولاية العهد، مسيحيا، واستفتاء على «بقاء» تيار المستقبل بقيادة الرئيس سعد الحريري سنيا، واستفتاء على «التوريث» من وليد إلى تيمور جنبلاط درزيا، واستفتاء اجماعيا على المناصفة البرلمانية بين «حزب الله» و«حركة أمل» شيعيا. اذاك، صار معيار النجاح في الانتخابات هو كسب هذا الاستفتاء. وهو ما تحقق بشكل عام بالنسبة إلى كل العناوين المذكورة هنا، مع اعتراضات: تراجع عند «المستقبل» رغم نجاحه في استفتاء البقاء، ونيله لأكثرية المقاعد السنية، وتضاعف في كتلة نواب «القوات» رغم استمرار التكتل الموالي لرئيس الجمهورية متصدرا للنصف المسيحي من البرلمان، ورغم تراجع نصيب مسيحيي 14 اذار المسيحيين ككل، من اكثرية مسيحيي المجلس السابق إلى ثلثهم في المجلس الحالي. هنا، تعقدت الأمور بعض الشيء أمام لوحة الاستفتاءات المتوازية، الجارية بين نفر كل طائفة، وترجم ذلك اعاقة لعملية تأليف الحكومة، حتى الساعة. 
لكن، هل ثمة معيار آخر لاستطلاع نتائج الانتخابات غير معيار الاستفتاءات المتوازية بين الطوائف؟ بالمطلق، المعيار الأساسي لقراءة اي انتخابات هو معيار من يحصد الاكثرية البرلمانية ومن لا يوفق في ذلك.
صحيح ان «تفاهما خطابيا» ضمنيا سرى بين كافة الاطراف، من قبل التوجه إلى الصناديق، فحواه ان المعركة لا تخاض هذه المرة من اجل انتزاع اكثرية برلمانية مجملة، لكن معيار الاكثرية والاقلية هو معيار كوني وكلي، ليس وليد تجربة 8 و14 اذار ولا ينفق بانقضاء هذه التجربة. وما دام لبنان، دستوريا، ديمقراطية برلمانية، فلا فكاك فيه، يفترض، عن ملاحظة من يشكل الاكثرية ومن يشكل الاقلية ضمن البرلمان.
اكثرية النواب باتت اكثر مطواعية لطروحات حزب الله حول سلاحه ومقاومته وقتاله، من دون ان تكون الاكثرية البرلمانية هذه مؤطرة في اي شكل من اشكال الائتلاف السياسي، بل ان التنافر على اشده بين حليفي الحزب، حركة امل والتيار الوطني الحر، وليس هذا بتنافر مصطنع، ولا بتنافر عارض، حتى لو كان منطق شبك الجهتين مع حزب الله يحكم التنافر بينهما بحدود معينة، فلا يلبث أن يتراجع التوتر وراء هذه الحدود والضوابط بعد كل نوبة تصعيد.
اذا، تغييب معيار الاكثرية والاقلية في نتائج الانتخابات الاخيرة هو تغييب وهمي إلى حد بعيد، ما دامت الموازين باتت فعلا لصالح «حزب الله» داخل المجلس. لكن هذه الموازين ليست متحققة في اطار جبهة سياسية من اي نوع، وفي اي افراز للعبة موالاة ومعارضة جديدة في البلد، الامر الذي يعود فيجعل مسألة التأليف الحكومي سجالا، لا بين اكثرية واقلية نيابيتين، بل بين مجموعة أقليات نيابية متفاوتة في الحجم، ومتفاوتة قبل كل شيء في رصيدها «غير البرلماني». 
المعيار المقابل، هو من حقق «اجماعا» ضمن طائفته وبين من اكتفى بأكثرية من دون اجماع داخلها. هنا نلحظ تفاوتا بين المشهدية الثنائية الشيعية وبين السياقات الاخرى. اجماع انتخابي على ثنائية حزب الله وامل شيعيا، في مقابل تكريس ثنائية اكثرية عونية انما في تكوينها هشة، واقلية قواتية كبيرة متراصة، مسيحيا، وذهاب عدد غير قليل من المقاعد السنية لغير «تيار المستقبل» مع صعوبة تجميع هؤلاء في كتلة معارضة سنية، بل انقسامهم بين الايجابيين والسلبيين تجاه «المستقبل». 
أما المعيار المعتمد عند «القوات اللبنانية» فهو يحاكي نبضها: التمييز بين من تقدم ومن تراجع بين الانتخابات السابقة والانتخابات الحالية. فهذا انعكاس لكونها الجهة الوحيدة التي تضاعف عدد نوابها تماما بين الاستحقاقين، في حين تفاوتت حظوظ الاخرين بين المحافظة على ما كان لهم، او خسارة جزء منه. 
يبدو أننا هنا أمام معيار «حيوي»: من تقدم، ومن بقي في مكانه، ومن تراجع. سوى انه لا يصلح اساسا كمعيار لقراءة الاوزان في مجلس نيابي، وكم بالأحرى في تركيبة حكومية. الكل بقي في مكانه او تراجع، ووحدها القوات تقدمت نعم. لكن كل الآخرين، غير القوات، هم في موقع «اكثرية» ضمن اطار طائفي ما. هي وحدها، بين القوى الاساسية، في موقع الأقلية السياسية، ومن دون حلفاء حقيقيين لها. هكذا وضع هو مأزقي بامتياز لها، وللتركيبة الناشئة بعد الانتخابات ككل. ان يتنازل العونيون لها حكوميا فهذا يعني انهم يتنازلون عن سرديتهم الانتصارية في الانتخابات. أن لا يتنازلوا لها حكوميا فهذا يعني ايضا المكابرة على كونها ضاعفت عديدها البرلماني، وفي كونها في هذا، الاستثناء. وضعية مأزقية، محتبسة، تسبب الكثير من الانقباض والتصلّب والانفعالية. لكنها وضعية مأزقية تتخطى معضلة الحجم التوزيري للقوات. المأزق الأساسي هو انه لا يمكن ان يحدد كل فريق معايير الربح والخسارة كما يريدها هو، في حين ان «التوافقية» اللبنانية، تعتمد إلى حد كبير، على هذا: ان يحدد كل فريق معاييره للربح والخسارة.. بمعزل عن الربح والخسارة في الواقع الفعلي، السياسي، لجريان الأمور وتفاعلها. المأزق اليوم تشكيل حكومة تضم «جميع المنتصرين ذاتيا» في الانتخابات الحالية، من دون ان يتنازل اي منهم عن سرديته الانتصارية في جزء منها. هو مأزق الترجمة الحكومية للنتائج الانتخابية الذي يطعن في صفتها هذه، اي في كونها فعلا «نتائج». 
كانت «انتخابات انطباعية»، والمعاناة تحدث الآن، عند البحث عن «حكومة انطباعية». كان ثمة تصور ان انتخابات «نسبية» تستدعي ترجمة حكومية فورية «للنسب» فيها. هذا التصوّر يلعب حتى الآن دورا في كبح أي ترجمة ممكنة للانتخابات الانطباعية!

القدس العربي

اثنين, 16/07/2018 - 08:50