"ملاكمة رئاسية" تشبه أميركا اليوم!

أحمد الفراج

انتظرت أميركا ومعها العالم طويلا المناظرة المرتقبة بين الرئيس دونالد ترامب، ومنافسه الديمقراطي جو بايدن، وذلك لأنها تأتي في مرحلة حرجة من التاريخ الأميركي، في ظل انقسام حزبي وأيدولوجي وعرقي حاد لم تشهد له البلاد مثيلا منذ زمن طويل.

ولا أبالغ في القول إن هذه المرحلة تشبه في كثير من الوجوه مراحل كانت فيها الولايات المتحدة في حرب مع نفسها، مثل فترة الرئيس التاريخي أبراهام لينكولن، التي شهدت حربا أهلية كادت أن تعصف بالاتحاد الأميركي لولا وجود زعيم استثنائي هو لينكولن، الذي دخل البيت الأبيض شابا ثم بدا بعد انتصاره في تلك الحرب وإعادة توحيد أميركا بالقوة كشيخ في التسعين من عمره، بسبب أهوال الحرب وآلام الأميركيين من جرائها.

كما أن أميركا الحالية تشبه فترة خمسينيات وستينيات القرن الماضي، التي شهدت صراعا عرقيا عنيفا انتهى بقرار شجاع من الرئيس ليندون جانسون، عندما وقع قانون الحقوق المدنية للمساواة بين البيض والسود وأنهى معاناة السود من التفرقة العنصرية التي استمرت مائة عام.

بعد نهاية مناظرة ترامب مع بايدن، قال كثير من المعلقين إنها كانت مهزلة، ومع صحة هذا الوصف فإن هذه رؤية سطحية، فمن ينظر للأمر بشكل أعمق يرى أن المناظرة كانت انعكاسا للواقع الأميركي الحالي، حيث الانقسام والغضب والفوضى، ليس على المستوى الشعبي وحسب، بل على مستوى الساسة.

وتخلو الساحة حاليا من ساسة العيار الثقيل الذين يجعلون مصلحة الدولة فوق مصلحة الحزب، كما حدث في سبعينات القرن الماضي، عندما وقف معظم الساسة الجمهوريين ضد الرئيس الجمهوري ريتشارد نيكسون، وانتهى به الأمر للاستقالة وخرج من البيت الأبيض منكسرا، ليس بسبب خصومه الديمقراطيين بل بسبب رفاقه الجمهوريين أيضا.

فقد سبق المناظرة حروب إعلامية شرسة، وحشد حزبي وأيدولوجي غير مسبوق واتهامات متبادلة، وألقى كل ذلك بظلاله على المناظرة التي لم ترق لمستوى المناظرات الرئاسية، وهبط فيها مستوى الحوار وآدابه، ولم يكن فشل المذيع كريس والاس في إدارتها بسبب ضعف أدائه، فهو إعلامي من طراز فريد، لكن حالة الغضب والاحتقان كانت أكبر منه ومن قدراته الفذة.

الهدف الرئيسي من المناظرات الرئاسية هو أن يقدم المرشح نفسه للناخبين كزعيم قادر على قيادة أهم وأقوى دول العالم، وأن يدحض كل الاتهامات الموجهة ضدة، وهذا بالنسبة لبايدن يعني أن يقدم نفسه كسياسي لا يعاني أي خلل في قدراته الذهنية، ويعني لترامب أن يثبت أنه حقق إنجازات خلال سنوات رئاسته الماضية، خصوصا ما يتعلق بالاقتصاد ومواجهة جائحة كورونا.

وعندما أقول الناخبين فإنني أعني الناخب المحايد، لأن هناك شرائح واسعة ستصوت لترامب أو بايدن أيا كان الأمر، لكن صدم الجميع عندما بدأت المناظرة بمقاطعات متكررة من ترامب، الذي بدا متوترا على غير عادته، ربما بسبب تداعيات تقرير جريدة "نيويورك تايمز" المسيّس في توقيته عن إقراراته الضريبة، وكان لافتا أن ترامب، الذي اشتهر بالتنمر على خصومه، كان أقل استخداما للألفاظ النابية من بايدن، الذي بدا في مزاج متقلب خلال وقت المناظرة، فتارة يضحك بلا سبب، وربما هذه إستراتيجية لاستفزاز ترامب، وأخرى ينعته بالمهرج ويقول له :"اخرس"، هذا عدا عن همهماته وتعليقاته المسيئة التي لم تتوقف خلال المناظرة.

ومع كل ذلك، كانت هناك نقاط قوة لكلا الطرفين خلال المناظرة العجيبة، فبالنسبة لبايدن، أُحرج ترامب في مسألة تجمعاته الانتخابية رغم وباء كورونا، أما بالنسبة لترامب فقد ضرب على أقوى نقاط قوته، أي احترام النظام والقانون، وقد أحرج بايدن عندما طلب منه أن يسمى منظومة أمنية واحدة تدعمه، وغني عن القول إن معظم المنظومات الأمنية أعلنت دعمها لترامب.

ثم أحرجه مرة أخرى، عندما طلب منه أن يشجب منظمات اليسار الراديكالي، أي "أنتيفا" وحركة "حياة السود مهمة"، ولم يستطع بايدن أن يجيب، وهي محاولة ذكية من ترامب لربط بايدن باليسار الراديكالي، فالشعب الأميركي في معظمه يرغب في مرشح معتدل، ولا يمكن أن يصوت لمرشح ينتمي لأقصى اليمين أو أقصى اليسار، أما ملف العنصرية، وهو الملف الحساس للغاية، فقد ضرب ترامب على وتر لا يرغب بايدن في تذكره، هو حقيقة أن بايدن كان وراء استصدار تشريع أفضى تطبيقه إلى الزجّ بالكثير من السود في السجون.

في تقديري أنه لم ينتصر أحد في المناظرة، بل خسرت الديمقراطية الأميركية ونظامها المؤسساتي العريق، إذ كانت مصارعة كلامية أكثر منها مناظرة رئاسية، وكانت متوائمة مع الحالة الراهنة لأميركا، وبالتالي لن يستطيع الناخب المحايد أن يحسم أمره من جراء مشاهدتها.

ومع ذلك لا زلت أقول إن الناخبين، وخصوصا المحايدين، يهمهم أمران في حسم التصويت لصالح ترامب أو بايدن، أولهما الاقتصاد، الذي يرى ترامب أنه أنجز عملا جبارا لولا جائحة كورونا، ويرى بايدن أنه لم يتعامل مع الجائحة كما ينبغي، أما الثاني والأهم، فهو مسألة الأمن واحترام النظام والقانون، وهذه نقطة يتقدم فيها ترامب بمراحل على منافسه حتى قبل المناظرة، وكل ما نأمل هو أن تكون المناظرة المقبلة رئاسية قولا وفعلا، فلننتظر ونرى.

سكاي نيوز عربية

 

سبت, 03/10/2020 - 10:45