أدب الرحلات و"الأنستغرام"

ريم الكمالي

شهد الإنسان في القرن الواحد والعشرين أسفاراً هي الأشد نشاطاً في تاريخ الرحلات عبر اليابسة والبحر والفضاء، وبالمقابل تراجع اهتمام هذ المسافر بالنص المكتوب، بعد أن توهجت العدسة بتقنيتها الواقعية في التعريف بين الشرق الجديد بالغرب المعاصر، تمثلت في شاشة ألبومه الصوري الصناعي "الأنستغرام" حيث تهبط الصور الممتازة تقنياً وفنياً مع مفردات تعريفية قليلة لتصبح عند البعض بديلاً لأدب الرحلات المكتوب.

نحن لا ننكر بأن النص يمثل صاحبه، وكذلك العدسة بوصفها مرآة الوضوح إن حضرت اللغة أم لم تحضر، فاللقطة كفيلة بمعرفة نوع الملتقط، كما كان يوماً النص كفيل بمعرفة نوع الكاتب.

كان أدب الرحلات عنواناً واسع البذخ لندرته، واليوم تحول إلى فن الالتقاط لصورة قادرة على التسلية والإخبار والمتعة، كما كان مكتوباً، لكن بين جدل العدسة والنص، وبين الرفض والقبول، بقيت الفلسفة ذاتها، منذ الكتاب الورقي إلى التقنية الساحرة في لقطتها المُلِحَة والعميقة، بالرغم من عِلمنا أن مُشَاهَدة الصور أصبحت مثل الشظية على الشاشة تُرى بأقصى سرعة ممكنة لمجرد لمسها، إلا من بعض الصور النادرة والناطقة التي تجعلك تقف عندها، ليبقى التجانس ذاته بين الكلمة والعدسة كمصدر للبقاء أو الزوال.

قديماً كانت رسالة ابن فضلان العائدة إلى القرن العاشر الميلادي، نرى فيها من الوصف والعجب في خط سير رحلته بين بغداد والبلغار إلى روسيا، لتصبح مادة لم تغفل عنها اليوم الجامعات المتقدمة تدريسها بوصفها اثنوجرافيا وجيولوجيا وتاريخ وجغرافيا وسياسة ودين وسلوك اجتماعي وطقس... مما جعل النص مرجعاً دراسياً في العالم لهذه الرحلة التي استغرقت إحدى عشر شهراً وترجمت إلى جميع لغات العالم، ونحن لا ننكر إهمالنا لأهمية هذه الرسالة، وكذلك الرحلتان الشهيرتان المكتوبتين في القرن الثالث عشر، لماركو بولو "عجائب العالم" الذي وصف آسيا في ذلك الزمن، ورحلة ابن بطوطة "تحفة النظار" الشهير، فكلاهما بالوصف نقلا لنا علوماً وتسجيلاً لرحلة.

أما اليوم وبعد أن توسع مفهوم أدب الرحلات عبر العدسة التي بإمكانها أيضاً نقل ما يصادفنا من أمور اجتماعية جغرافية تاريخية وطقوس.. فلا مانع إذن أن تتحول إلى مذكرات أو إلى مرجع دراسي إن مارسنا مهارة فن الالتقاط، لقدرة العدسة اللماحة على التغطية لمعلومات لا حصر لها في (ألبوم الأنستغرام)، تماماً كالنص اللماح، فكلاهما مانحان، شرط المهارة في نقلنا بنوعية عالية، وكلاهما من أجل مقاومة العزلة التكنلوجية واستعادة الحرية المفقودة، واستجابة لنداء الأرض والإنسان والأرواح بشكل عفوي وعميق، خلال الارتحال الدائم الذي هو مشوارنا كبشر على وجه الأرض منذ تاريخ الخليقة، فالكلام واضح والعدسة تستوعب الفهم، فكن مسافراً بسلطة وجدانك كتابةً والتقاطاً.

نقلا عن إيلاف

سبت, 17/10/2020 - 12:59