هل بعض السجون بنوك للأعضاء البشرية؟

غادة السمان

يتوهم المرء أن ذلك الخبر المروع لا يمكن أن يحدث له بل لسواه، لكنه يمكن أن يحدث لكل منا، فنحن بشر. طالعته في صحيفة محترمة أثق في أخبارها، ويتحدث عن «ميت» في الهند عاد إلى الحياة على طاولة التشريح. وقبل أن يبدأ مشرط الطبيب (فتح) صدره بلحظات فقد تعرض هندي ذو 27 سنة لحادث دراجة نارية ومددوه على طاولة التشريح عارياً، وصدرت عنه فجأة بوادر تشير إلى أنه ما زال حياً!
أطباء المستشفى اعترفوا بأنهم أظهروا سوء تقدير. كان ذلك الشاب سعيد الحظ. لكن ماذا عن الكثيرين سواه؟
وكم عدد الذين توهم الأطباء أنهم ماتوا وما زالوا أحياء، وقاموا بتشريحهم لتوزيع أعضائهم على المحتاجين لها: قرنية عينه لهذا، كبده لذاك، كما كليته وغير ذلك مما يرعبنا لأنه قد يحدث لنا.

تخاف أن يحدث ذلك لك!

من زمان وقعت على ورقة أعطتني إياها رئيسة «جمعية العناية بالطفل والأم» في بيروت أهب فيها قرنية عيني بعد وفاتي للمحتاج.. وكنت في العشرينيات من عمري، لكنني قرأت بعدها أخباراً مروعة في الصحف عن أشخاص توهموا أنهم ماتوا وكان ما يزال فيهم بصيص حياة، وبمشيئة الخالق عادوا إلى الحياة التي لم تفارقهم أصلاً، وهكذا بدلت رأيي وخفت أن أستيقظ في قبري عاجزة عن النظر… ومزقت الورقة التي أتبرع فيها بعيني!

فليمت الآخر إكراماً لحياة ابني!

كثيرة هي الأخبار عن أشخاص توهم الأحباء أنهم ماتوا ثم أذهلهم وأسعدهم أنهم كانوا ما يزالون أحياء، كأن يتحركوا في المقبرة قبل دفنهم. ولدي ملف خاص بتلك الأحداث لم أنشرها اليوم لكي لا أخيف القارئ الراغب في التبرع بعضو ما بعد رحيله عن كوكبنا (ولا أستطيع القول بعد عمر طويل، فالأعضاء التي يتم نقلها يستحسن أن تكون من شابة أو شاب!). السينما الأمريكية والمسلسلات استوحت هذا الموضوع على نحو آخر، وزادت في خوف البعض (وأنا منهم!) فهذه طبيبة في أحد المسلسلات التلفزيونية ابنها مريض في غرفة في المستشفى بحاجة إلى زرع كلية ليظل على قيد الحياة، وهذا آخر في غرفة مجاورة في المستشفى نفسه في مثل سنه وكرياته الدموية وكليته صالحة للزرع لابن الطبيبة، وتقرر الطبيبة أن تترك المريض الآخر يموت لكي تنقل كليته فوراً إلى ابنها وتنقذ حياته!

في سجون الدول الديكتاتورية

فقد يمرض ابن ديكتاتور في بلد ما، ويقرر الأطباء استئصال كلية سجــين لزرعها لابن الديكتاتور المريض.. بل ويصير بيع الأعضاء من بعض طقوس السجون في البلدان، حيث لا عدالة ولا حقوق للسجين!
بل قد تصير بعض السجون مزرعة لبيع الأعضاء بعد إعدام بعض المعارضين في بلدان الحكم الديكتاتوري، حيث تسود صحافة (الهص الهص)… وحذار من كتابة الحقيقة لئلا يصيبك ما أصاب الذين دافعت عنهم! بل قد تصير السجون مزرعة لبيع الأعضاء بعد إعدام من صار تسويق أعضائه مناسباً. أي أن العلم يصير أحياناً نقمة.

بيع الأعضاء في البلدان الفقيرة

ابن إحدى صديقاتي اللبنانيات يعاني من قصور كلوي، وهو في حاجة إلى زرع كلية ليظل على قيد الحياة.
وهكذا سافر إلى بلد معروف بأن بعض فقرائه يبيعون كلية واحدة، وتعارف مع الرجل الذي سيبيعه كليته، واكتشف أنه يفعل ذلك لدفع نفقات تعليم ابنه في الجامعة!!
وتصرف الشاب اللبناني بنبل أن أعطى الرجل نقوداً لتعليم ابنه وذلك مجاناً ودون أن يشتري كليته وتركها له. ولذا، توجد أحياناً وكالات خاصة ببيع الأعضاء، بحيث لا يتعارف المتبرع/البائع مع الذي ستنتقل إليه كليته أو أي عضو آخر..

خوف يجب إعلانه!

بين وقت وآخر نطالع في بعض الصحف الغربية وحتى العربية مقالات تحرض على التبرع بالأعضاء بعد الوفاة.. لكنها لا تتطرق إلى جوهر الموضوع: وهو خوف المرء من ألا يكون قد مات نهائياً حين يقومون باستئصال أعضائه. ولدي في أرشيفي حكايات عن أشخاص توهم الجميع أنهم ماتوا لكنهم (عادوا) إلى الحياة، وهذا من أهم الأسباب التي تدفع بعض الناس إلى شطب فكرة التبرع بأعضائهم بعد الوفاة، يتجاهلون تماماً هذا الخوف… وهذا لب الموضوع.
وسيأتي وقت يرفض فيه أي شخص التبرع بأعضائه بعد وفاته (الممكنة وغير المؤكدة).
وأظن أنه حان الوقت لنبش هذا الملف غير المبهج، فالكثير من الناس يرفض أصلاً أن يتحدث عن موته ناهيك عن استعمال جسده (قطع تبديل)!

«عيناك قدري» في عيني آخر

من زمان حين وقّعت لرئيسة جمعية العناية بالطفل والأم أتبرع فيــها بقرنية عيني بعد وفاتي، كنت أتمنى أن يحصل عليها شاب ليقرأ كتابي الأول «عيناك قدري» وليكتب بعيني الجزء الثاني منه… كي أبقى حية بعد موتي بمعنى ما ولو أبجدياً.
أما اليوم وبعدما قرأت الكثير عن الذين عادوا إلى الحياة على طاولة التشريح أو في المقبرة قبل دفنهم، صرت أعرف أنني أعود إلى الحياة كلما طالعني قارئ بحب، وبدون أن أزرع له قرنية عيني.
الكاتب يعيش من جديد كلما طالع قارئ بحب كتبه وأعاد بذلك أبطال كتابه أحياء وأعاده معهم إلى الحياة… بمعنى ما.

القدس العربي

 

سبت, 03/04/2021 - 13:09