مثلث العينات أو هندسة الاقلاع

محمد محمود أحمد قاظي

العدد ثلاثة بداية الجمع في اللغة العربية فأقل منه قليل, و الجمع و الجماعة أساس العمران, محركه و غايته, و لذلك فلا غرابة ان كان للعدد ثلاثة و للمثلث حضور سحري طاغ في جميع مناحي الفكر و تجليات الحضارة البشرية.

فمعرفة الكلمات المثلثة طريق الى اتقان لغة الضاد فكانت موضوعا لتآليف شهيرة ابتداء من اللغوي الشهير قطرب بن المستنير (ت 206 هـ) ثم  ابن السيد الطليوسي ( ت 521هـ), ليبلغ فن المثلثات اللغوية ذروته مع العلامة ابن مالك الطائي الجياني (ت 672 هـ).

و قبل ذلك بقرون متطاولة كان بيتاغورس اليوناني (ق 6 قبل الميلاد) يعتقد فلسفيا أن الهندسة Géométrie  هي الأساس لفهم الرب, الانسان و الطبيعة, ثم قادته أعماله الحسابية الى اكتشاف قاعدة بيتاغور المعروفة في حساب العلاقة بين أضلاع المثلث قائم الزاوية.

هذا الفكر الثالوثي الوثني اليوناني سينجب لاحقا عقيدة الأقانيم الثلاث المسيحية المحرفة, تعالى الله الأحد الصمد عن ما يعتقدون علوا كبيرا.

أما عالمنا محمد بن موسى الخوازمي فقد ضرب عرض الحائط بعقيدة بيتاغورس لكنه استخدم نظرياته الحسابية لتوليد علم الخوازميات في أروع مثال على استفادة المسلم من الانتاج الفكري للمخالف.

و لم يخل الفن التشكيلي و الأدب و الموسيقى من مثلثات رائعة, كمثلث لوحات بيكون, ثلاثية القاهرة لنجيب محفوظ, و الثلاثية المقدسة لأم كلثوم......

و اليوم نستخدم ثلاثية (التكلفة, المدة الزمنية, و الجودة) في التسيير المعقلن للمشاريع, كما يستخدم الاطفائيون ثلاثية (النار, الوقود و الأكسجين) في تقنيات اطفاء الحرائق.

أما المثلث الذهبي فقد يكون حسابيا و هو المثلث متساوي القائمين, مكونين زاوية قدرها 36 درجة في حين أن كل واحدة من زاويتيه الأخريين تبلغ ضعف ذلك 72 درجة, و قد يكون سياحيا و هو الذي يقع في قلب باريس بين الشانز ألزيه و جادة مونتان و جادة جورج الخامس.

و أما المؤرخون فيقسمون تاريخ كل حضارة الى ثلاث مراحل: التخلف والنهضة والانحطاط, و نحن اليوم نغلق الدورة فمن الانحطاط عدنا للتخلف, فهل من مثلث عملي للاقلاع من التخلف و الانطلاق على طريق النهضة؟

ان المتأمل لتاريخ الأمم, ماضيها و حاضرها, لا يخطئ نظره و نتاج تأمله أن شروط الاقلاع ثلاثة, فيما يمكن أن نسميه "مثلث العينات" بسكون الياء, قاعدته عدالة, و قائماه علم و عمل, انه مثلث الاقلاع الذهبي.

عدالة فرص التعليم, و هذه لا تقوم الا على أساس مدرسة جمهورية يلبس أهلها نفس الزي المدرسي, يجلسون على نفس الكراسي, يتلقون نفس المناهج, يستخدمون نفس الكتب, يتلقون على أيدي نفس المدرسين, يدرسون بنفس اللغات... لا مدارس لأبناء الأغنياء يدرسون مناهجهم الخاصة و يدفعون لخيرة المدرسين, و مدارس لأبناء المتكففين يتزاحمون بالمئات على بلاط خشن, بلا كراس بلا كتب, يتلقون من مدرس غير مؤهل و بلا حوافز, و غير مخلص شعاره "اسمعوا و لا تعوا, فلا أنا طامع و لا أنتم مهمون".

عدالة فرص العمل, بتكافؤ الفرص في الوظيفة العامة, عبر مسابقات شفافة نزيهة اعلانا و اجراء, تنتقي الكفؤ القوي الأمين, لا وساطة و لا تمييز على أساس لون أو قبيلة أو جهة.

عدالة فرص العمل, بتكافؤ الفرص في الأعمال الحرة, منافسة للحصول على المشاريع, و تقييما للأداء و التنفيذ, لا زبونية و لا محاباة.

عدالة التقاضي, حكما و تنفيذا, على أيدي قضاة أكفاء, أمناء , مستقلين, أحرارا لا يخشون المتنفذين, و في وضع مادي يغنيهم عن ما بأيدي الناس, يحكمون على المرتشي و ناهب المال العام و لا يخشون في الله لومة لائم.

عدالة يثق بها المواطن و المستثمر الأجنبي فلا يخشى أحد على ماله و يثق كل في امكانية حصوله على ما يستحق, فغياب العدالة يعتبر أكبر عائق أمام قدرة الدول الافريقية على استقطاب المستثمرين الأجانب, و ينزل بها الى الدرك الأسفل من سلم التنافسية الدولية, فبلادنا مثلا تحتل الدرجة 134 من أصل 141 حسب تصنيف سنة 2019م. صحيح أن العدالة وحدها لا تكفي للرفع من مستوى التنافسية, فلا بد من توافر عوامل مساعدة مثل الأيدي العاملة الماهرة و البنية التحتية المؤهلة (طرق, اتصالات, صحة...) و هذه مرتبطة مع توفر العدالة بأضلاع المثلث الأخرى: علم و عمل.

علم يكون نتاجا لمناهج تعليمية عصرية, تناسب الخصوصية الثقافية و الاقتصادية للبلد, و تستجيب لمتطلبات سوق العمل به. مناهج تركز على الابتكار و البحث أكثر من تركيزها على التلقين وحده, تحفز الابداع و تكافيء المبدعين. مناهج تعلم التربية الوطنية و الخدمة المدنية, تعلم حب الوطن و الحفاظ على ممتلكاته و صيانة مكتسباته. كم نحن محتاجون للرفع من قيمة العلم و المتعلمين بعدما طغت ثقافة المال الحرام "السهل" و التنافس على الاستهلاك المادي الهابط. نحتاج يوما للمعلم, و يوما للعلم, و يوما للتلميذ. في خلال عقدين من الزمن فقط استطاعت استونيا أن تكون في صدارة الدول الأكثر نموا بعد استقلالها عن الاتحاد السوفيتي في مطلع التسعينات و ذلك باعتمادها على تعليم تقنيات الحوسبة و الشركات الألكترونية الناشئة, رغم قلة الموارد و رغم نصف قرن من النظام السياسي المتخلف. بالتركيز على التعليم احتل الهنود المناصب القيادية لأكبر الشركات الدولية (IBM, NOkIA, Deloitte, Mastrcard, Adobe, Microsoft…….), فقد انشغلت الهند خلال العقود الثلاثة الماضية بانتاج المهندسين و الأطباء الأكفاء فأصبحت تصدرهم للعالم, و قد حولوا مدينة بنجلور الى مركز العالم لانتاج البرمجيات, فهذا هو اقتصاد المعرفة الذي يركز على الاستثمار في العقول و ليس الاستثمار في الاسمنت و الحجر. لكن لتنمية حب العلم لا بد من خلق الحوافز و خلق الأمل الذي يرتبط بوجود عدالة في فرص التعلم و العمل, انه المثلث الذهبي.

علم يسير بنا على طريق البلدان التي تريد أن تكون لها مكانة بين أمم اليوم التي تعتمد في تعليمها على منهج ( STEAM: Science, Technology, Engineering, Arts and Mathematics) التعليمي الذي يتمحور حول التجربة, العمل الجماعي, حل المشاكل, الأساليب الابداعية...جيل يخلق الوظائف التي لم تولد بعد.

العمل و العلم, كلمتان مشتركتا الأحرف, وثيقتا الصلة بتحقيق الغايات, فلا خير في علم بلا عمل, و لافائدة ترجى من عمل بلا علم. و كم نحن بحاجة للاعلاء من شأن العمل, ثقافة و ممارسة, و فالنجارة شرف, و الحدادة ابداع, و الأمم لا يمكن أن تبنى الا بسواعد أبناءها. ان ثقافة الاتكال و التسول معيبة على مستوى الأفراد و فاشلة على مستوى الدول. يجب أن يكون الهدف خلق شعب عامل من خلال انشاء جمعيات عاملة تستهدف الاكتفاء الذاتي و رفع الانتاجية المحلية, جمعيات زراعية محلية, تعاونيات صيد بحري, شركات أهلية للخياطة و النسيج و صناعة الألعاب...و لا تعطى المساعدات الا لمن ينتج,  ينتج ما يأكل و ما يلبس, و ليس شعبا ينتظر مساعدات يعيش عليها منذ توزيع أول زنبيل من زيت كندي على هذه الأرض الجرداء. أما على مستوى الدول فقد مل المانحون أساليب اثارة الشفقة و اللعب على العواطف, انهم يريدون من يستطيع تقديم الأفكار التشاركية على قاعدة الكل رابح (win-win), و لكم في الجارة السنغال أسوة حسنة, و على كل من نضب فكره و تصحر ذهنه أن يعتزل العمل الوطني الريادي. لكن العمل لا يكون مفيدا الا اذا نفذ بشغف و ابداع من قبل من يتقنه لأن عنده "علم  من الكتاب" و قد ناله بجدارة على أساس من عدل, انه مثلث الاقلاع الذهبي.

ثلاثاء, 01/06/2021 - 12:24