رفقة المعلم ولد ابريد الليل: تنضج أفكار في الفروسية؛ (ح 9)

عبد الله يعقوب حرمة الله

"الاستخلاص وأخذ العبرة، ليس مرتبطا بالضرورة بأهم حدث في حياة الإنسان، أحيانا توقظه ببساطة صدمة لم تكن منتظرة، أو غير مبررة (...)، فهمت بشكل نهائي أن الفرد عندنا لا يمثل مثقال ذرة (..) سنوات انقضت من التعذيب والمرض دون طبيب أو دواء، اختلاط مذهل في سجون مكتظة، ملتقى للصوص والمجرمين والقتلة (..)حوكمنا وأدنا من طرف محكمة، في قضية نجهل عنها كل شيء، لم نألف قضيتنا إلا من خلال استجواب الشرطة والقاضي والمحكمة نفسها (..) كان المحدد اليومي للنفقة المخصصة لدرجتي من السجناء، أي كبار المجرمين قدره أربعين أوقية."

**

تابع محمد يحظيه ولد ابريد الليل أبرز أحداث القطر الموريتاني والعالم من خلف القضبان : من سجن المستعمر الذي اورثه عراء الاستقلال؛ صحبة رفيق دربه الدفالي ولد الشين، أخذ علما باختطاف مرتزقة " بوش"، للبطل الرئيس صدام حسين، متشبثا بروح الأمل على أنواء هوان العرب، في انتظار صب النصر.

طالت ماكنة القمع الطيف السياسي بمختلف فصائله، مع  تعرض حزب البعث لمحاولة تصفية شاملة و استهداف قائده على مدى ثلاثة عقود وبضع سنين، خصوصا ظروف الاعتقال وأساليب انتزاع الاستماع خلال محاكمات صورية  بتهم التضحية الثابتة من أجل موريتانيا.

طالت سياط المستبد كرامة الرجال، ومكث ولد ابريد الليل بهدوء المحترم في سجون محافظات البلاد، قبل محاكماته داخل الثكنات والقلاع المحمية، حيث وثق العميد والمحامي البارز يربه ولد أحمد صالح عجز الدكتاتوريات المتعاقبة عن النيل من شموخ حارس الهوية وجندي الإصلاح : " لم توجه للمرحوم في يوم من الأيام تهمة تتعلق باختلاس المال العام أو بالفساد ولم يذكر عنه أمام هذه المنابر اعتداء على مستضعف أو حتى على قوي ولم يتجرأ وكيل نيابة فيتهمه بما هو مخل بالشرف."

 مزق الراحل غالي ولد عبد الحميد، ستائر صمت المشهد الحقوقي المحسوب على قوى اليمين المتطرف وأجساد الوهم والضغينة، فاضحا الاستهداف الممنهج لولد ابريد الليل المحتفظ بوقار زينة الرجال من صدإ الأغلال، بعد تجرع لسع السياط كحيثيات لمسطرة تستهدف الكرامة.

قال المسؤول الأمني السابق محمد محمود ولد الشيخ الحسن، بعد جلسة استماع لولد ابريد الليل رفقة ضباط آخرين من الشرطة، مطلع تسعينيات القرن العشرين : " كان المرحوم صلبا جلدا واثقا من نفسه يجيب على كل سؤال إجابة صادقة بلا تلعثم وبكل حضور ..."، رغم صعوبة ظروف وأسلوب التوقيف.

أدمن جسده حاجة تدثر عقله بفراغ بغيض تسدله بحماس رشاقة " اليوكا"، لإسقاط وعثاء استجواب الحبس الانفرادي وزعزعة التجويع، بعد التخلص من ساعة معصمه لدقائق معدودة، ليستعيد طاقات هدرها الصحو المتواصل والإهانات المتكررة؛

قبل إحدى حلقات الكرباج تدفق الجلاد تحريضا لوكلاء السحل لشد أهداب وقار المعلم، الذي تهاوت في حضرته شراسة رهط العذاب، راضخين للتنافس في احترامه و الاعتناء به أمام صمت الجلاد  الذي سلبه حضور ولد ابريد الليل زعاف حقده ليتحول الاستجواب إلى جلسة متواصلة الإمتاع والسكينة من حبيس عزل أقعده صدق النضال ووافر التضحية عشر عمره بسجون نواكشوط المدنية والعسكرية وإدارات ومخابئ الشرطة السياسية، وزنزانات المدن التاريخية وعواصم الولايات الداخلية.

عاش ولد ابريد الليل من أجل رفعة موريتانيا وشرف العرب وكرامة الإنسان، متشبثا بإقدام المقاوم بياكِ ولد عابدين و بصيرة عفلق و بذل شوين لاي؛

 أعلنه نقيب المحامين ذ/ إبراهيم ولد أبتي "أكبر صديق للهيئة الوطنية للمحامين"،  باعتباره "السياسي الذي عرف أكبر قدر من المحاكمات السياسية في تاريخ موريتانيا"، مؤكدا أنه كان "رجلا قويا" رغم صعوبة ظروف سجنه ومحاكماته خصوصا في الثكنات : " يتحدث بثقة تامة في نفسه وجدية وصراحة"، و خلال مثوله أمام إحدى المحاكم العسكرية، بعد أشهر من إنقاذ رفاقه لنفس النظام العسكري، لم يتحرك طيلة أربع ساعات متواصلة ولم يلتفت، أثناء استجوابه ولحظة إعلان عقد زاد حولين من الأعمال الشاقة في حقه.

يستفيض العميد أبتي في شهادته المؤثرة، مشددا على أن "هذا النوع من الرجال نادر من حيث الرؤية، الدقة، الصلابة، العزم، احترام وتقدير رفاقه"، ويضيف، " نحن المحامون نعترف لولد ابريد الليل بالكثير،  فعندما يكون رجالات السياسة في ورطة وفاقدي البوصلة ينير الطريق بأفكاره المتناثرة في نصوص قوية وعذبة".

يبقى سجن أصحاب الرأي من أفعال الاستبداد الأكثر قرفا في تاريخ المجتمعات الاستثنائية، إذ ترسو سفينة الدولة على شاطئ الطوارئ، ليبطش شنآنها خارج الشرعية، باستهداف إجرامي لأصوات الشعب المسموعة، وفرض العزلة بلهيب السياط وجبروت الأغلال وخنق الزنزانات؛ لتبقى مسيرة النضالات الديمقراطية لنساء ورجال البلد من أجل الاستقلال وضد الاحتلال حبيسة السجن الكبير الذي فرضه الاستبداد وطنا، للنيل من كرامة الشعب.

تكتمل بسهولة صدقية الحدس مفرجا عن صورة الإنسان المنتصر على فظاعة السجن والارتقاء إلى قمة الاعتبار المعنوي والاعتراف بجميل الرفض من أجل الوطن.

يمنح السجن النشاط السياسي حياة أخرى خلف جدرانه، عبر الأدب السياسي الغني بالذكريات والمواقف وتراث السجون المعرفي والقسري على حد سواء.

يرتبط تاريخ حجز واختطاف أصحاب الرأي بالمشروع الاستعماري، كآلية لهيمنة ثقافة تهميش الخصوم وقمع المقاومة وتصفية رموزها، و مع توسع الإمبراطوريات الاستعمارية لجأت للنفي إلى مخيمات الموت بعيدا عن الوطن الأم.

ولتضييق الخناق أكثر لجأت  الإدارة الاستعمارية، لتشريعات الطوارئ لمعاقبة جميع أشكال المقاومة "المحلية"، ليس فقط بالمعنى السياسي الضيق، ولكن أيضا المالية والدينية.

لا زالت سجون الاستعمار تحتفظ بأسرار الإهانات والتصفيات  طيلة فصول جرائم الغزو في تجاهل مبتذل من عالم حقوق الإنسان ومراكز البحث الدولية، مع عناية مهينة أحالت زنزانات الأمس إلى مجرد "مباني تاريخية"، في مجتمعات تجرعت فرض قوة نموذج السجون والتبعية.

اثنين, 21/06/2021 - 11:52