العرب: صاحب البالين كذاب!

علي الزعتري

منذُ زمان تساءلت عن غيابِ الرد على غارةٍ كبيرةٍ في عمق بلد عربي؛ فقيل و ما أدراك أن الرد لم يحصل؟ لم أقتنع و ظننتُ الجواب تهرباً من حقيقةِ أن الرد ليس مُتاحاً أو مسموحا.
لم أكن يوما مطلعاً على استراتيجيات الحروب و البقاء و ما يدور في الخفاء في عالمي السياسة و العسكرية، لكنني مثل ملايين المواطنين أقرأ و أشاهد ما يجري و أحاول أن أفهم. و لقد سئمتُ مثلهم عبارةَ الرد الذي سيأتي في المكان والوقت المناسبين بعد كل اعتداء. لا شك أن التخطيط طويل المدى و التلميح بنجاحه على أساس طول المعركةِ و الحاجةِ للصبر الاستراتيجي هو مخرجٌ أو قل مبررٌ مثالي لتصبير مشاعر الألم و القرف التي تقفز بوجوهنا كلما اعتدت الصهيونية علينا. و هي اعتدت حتى قبل أن تصبح دولة في كل مكان من  فلسطين والأردن ومصر و سوريا و لبنان بداية ثم إلى تونس و السودان و العراق. واغتالت في أماكن عديدة سياسيين و علماء و قادة و كتاب و شيوخ دين و لم يوقفها أحد. هي كالكلب الهائج الذي يحتاج لكمةً في الأنفِ و رفسةً تؤلمه و لو مؤقتاً، لكن كلبُ الصهيونية الهائجٌ و النابح و العاض يمرح في كل الاتجاهات العسكرية و السياسية و الإعلامية والتراثية والدينية والأخلاقية و لا من رادع يردعه .
أسأل نفسي إن نحن معتادون على الهزيمة أو خائفون منها و نبررها بالوقت والزمان غير المناسبين دوما؟ هكذا يبدو من التاريخ و إن أردت أن أصدق أن الحمية موجودة في الدماء. عدا عن الحروب الكبيرة، منذ عام 1948 حين فقدان ثلثي فلسطين وإقامة المسخ الصهيوني، ثم عام 1967 حين انتشينا ليوم ونصف عبر إعلام كاذب لنصحو على زوال ما بقي من فلسطين واحتلال سيناء والجولان، ثم عام 1973 في حرب 6 أكتوبر أو 10 رمضان التي أنتجت بعد جهد صلحا و سفارات و تثبيتا للاستعمار و إعطائه الشرعية، وما بينها، كلها، حروب و متاهات دماء شتى خلفت مئات الآلاف من الشهداء من العراق للبنان للجزائر و السودان و اليمن و سوريا، و لم تكن حروباً مع الصهيونية إلا لفتراتٍ ضيقةٍ زمنياً حاسمةٍ تاريخياً. و اليوم  نرى العدو بكل مجرميه المتأنقين و الرعاع يتمطى و بالترحيب يتمدد من المحيط للخليج. أرقام التجارة بينه و بين العرب شاهد على هذا. و مشاهد تواجده العلنية لم تعد غريبة بل مقبولة، و المخفي من تعاون يظهر بين الفينة و الأخرى لا يترك مجالا للشك أنه يكتسح العرب. أي نعم، جولات القتال الشرس في ساحاته بلبنان وغزة فيها انتصارات ولكن فيها خسائر فادحة لا تزال غير معوضة و مهما أوقفت العربي بثبات أمام العدو فهي لم توقف العدو حقيقة فلا يبدو أنه ينهزم و يتراجع بل يكتسب نصراً وراء نصر.
كذلك يؤرقني الهاجس أن العقلية العربية المتصالحة تلتقي بالعقلية المقاومة في مسعى يقود حسب تحليلي لنتيجة واحدة دون اتفاق الطرفين، والنتيجة هي تثبيت الاحتلال على مر العقود رغم أنف المقاوم وبرضى المتصالح المقتنع. كيف؟ إن عقلية المقاومة في الساحة العربية ذات مظهر وجوهر إسلامي و تؤمن بأن المعركة في جذورها دينية وأن مآلها لحرب آتية عاتية ستقضي على أعداء الإسلام وفي مقدمتهم الصهيونية، فهذا هو الوعد الإلهي. متى هذه المعركة؟ لا أحد يدري لأنها من الغيبيات. لكن الإيمان بها من صلب التفكير المقاوم في المذهبين اللذان يتصديان للصهيونية و التفسير للمعارك الجانبية التي تحصل كل بضع سنوات لا يحمل بالطيات استعجالا لها بقدر ما قد يكون معارك لا يمكن تفاديها و تكتيكا للتموضع و الإستعداد الذي كثيره سياسي مصلحي و ما هو بناء عسكري. لكن الإيمان المترسخ لدى المقاومة الإسلامية هو أن المعركة الكبرى التي تستوجب الاستعداد لا ترتبط بآنيةٍ مستعجلة و إن طال زمان انتظارها، غداً أو العام القادم، فلن يكون وقوعها دون الإشارة الإلهية و إلى ذلك الوقت الغيبي يجري تأسيس قوة وتمكين السيطرة السياسية. وعليه فالصبر الطويل واجب رغم عديد التضحيات التي تكسر الظهور.
على النقيض من هذا فإن النظام العربي الرسمي تطور في التفكير ليؤمن بعبثية العداوة مع الصهاينة المسيطرين كونيا و الذين يملكون مفاتيح عواصم مؤثرة وأن التوافق معهم و بث استقرار الرفاهية، عبر العمل معهم، على أفضل ما يمكن الوصول له من بنود إتفاق، هو أجدى من محاربتهم. الحكومات العربية بكل دولة بما فيها الفلسطينية رضيت عن التنازل عن الحقوق مقابل الرفاه.  بعضها رضي قبولا و بعضها مرغما مقابل القروض والمساعدات والتسهيلات التي أصبحت سيد السياسة الرسمية. و النظام غير الرسمي المقاوم هو طرفٌ مؤثر ينتظر الغيب و يقتنص المكاسب السياسية بمناورة لا تخلو من قساوة و يبني قوة ردعٍ تُثارُ حولها الأساطير و يتعامل مع النظام الرسمي و ينسق معه من باب شراء الوقت و تكييف الظروف. بين هذين النوعين من العقلية يقبع هذا الشرك الفخ الذي يعتصر الحياة من الأسرى و أهاليهم و أهالي الشهداء والجرحى والمعاقين والمتضررين بلا عمل و الفقراء و الغيورين على الأوطان التواقين إما لما يشفي الغليل، اليوم، لا غدا أو بعد أعوام، و إما حياة معقولة لا تنتقص من لقمة عيشهم أو كرامتهم. لكن لا المقاومة التي تنتظر الإشارة الإلهية ولا الحكومات التي تنتظر الرفاهية ستحررهم في أي زمان منظور لا من إحتلال و لا من عازة و الإثنان غير قادرين على تعميم الرفاه إن اقتصاديا أو اختياريا. الحكومات تعجز ضمن سياساتها عن توفير توزيع عادل لأسباب عديدة كلها معقدة و المقاوم محاصر محارب و يتنافس مع المواطن على التمويل الآتي عبر الحدود.
لذلك فإنه أسوأ أنواع الإنتظار، إنتظار النصر الرهين بهكذا ظرف، وأؤمن أن الناس وصلت لحالة اليأس التي لخصها الشاعر: فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدا. إنه اليأس الذي يقترب من الانتحارية، و قطعا لن يغتاظ العدو من موتنا، و أيضا لليوم لا حياة تسر الصديق لأغلبية العرب. حتى الشعر يخوننا. و نسأل هل لا يوجد ما يكفي من القوة لتمكيننا من النصر الآن؟ و بالقوة أعني مجمل المكونات الرسمية و الأهلية المادية و المعنوية؟ بلى يوجد، ولكن لا يوجد ما يجعلنا نعتقد أنها ضمن الخيارات  للنظام العربي الرسمي وغير الرسمي، كل لسببه و تفسيره، و يا له من بؤس أن نستوعب هذه الحقيقة التي تملأ النفس فتطفئ فيها كل أمل.  الحقيقة مرة. الحروب مدمرة تأكل ما أمامها و تشل الشعوب لعقود. ليس بمقدور أي حكومة أن تدخل حربا هذا الزمان خاصة إن كان الخصم هو الصهيونية. البديل المقدور عليه هو ما نراه: حكومات تصالح و مقاومة تناور. كان الوضع العربي سيكون أفضل لو توافق الطرفين. لكنهما خطان لا يلتقيان بينهما الشعوب تميل يمينا و يسارا تريد الاستقرار والرفاهية و تتغنى بالمقاومة. صاحب بالين كذاب.

رأي اليوم

أربعاء, 08/09/2021 - 13:16