محمد فال بلال

محمد فال بلال

ومن كيهيدي، كان السفر بحرا الى مدينة "بكل " السنغالية على متن قارب أو زورق صغير مجهز بمحرك كهربائي لمدة يومين وليلة دون توقف. كنا 8 أشخاص ومن بيننا امرأتان. وزادنا: عُلب من البسكويت ( امبسكيت وهبه) وكيلوغرامات من الفُل السوداني (گرتَه) و "حفنات" من اللحم المجفف (التيشطار) ومُد من "صايْنه" (كسكس ازرع مجفف يُبلُّ بالماء الساخن ويضاف إليه تيشطار ودهن وملح خفيف،،، ويا الله!). لم نجد مشكلة في ذلك السفر سوى إحراج الوالد و احترازه و تضايقه من وجود نساء غير محرمات. ومن "بكل" استأجرنا عربة يجرها حصان وخدمات حارسَين مسلحين بسيوف وأسلحة نارية. وصلنا سيلبابي بعد يوم وليلة من سفر شاق. 

هكذا كان أبي يتحمل بصبر وحزم وعزم مشقة هذه الأسفار ذهابا وإيابا على مدى ثلاث سنوات للوصول الى محل عمله. كان رحمه الله ينظر إلى مهمته ومهمة المُقرئين في ذلك العهد على أنها جهاد في سبيل الله وجهاد في سبيل الوطن ودفاع عن الهوية والأصالة و ذود عن كرامة المجتمع والشعب...رغم أن اللغة العربية لم يكن لها أي احترام أو اعتبار في المدرسة الفرنسية، و رغم الحرب النفسية المعلنة ضدها وضد معلميها وحملات التشويه والتهكم والتنكيت إلاّ أنهم صبروا و صابروا و جاهدوا بضمير مهني وأخلاقي عميق و وعي وطني و ديني رفيع حتى تمكنوا من أداء مهمتهم. 

عام 1959 تمت المصادقة على تعديلات دستورية جعلت اللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية للبلاد والعربية هي اللغة الوطنية. وبناء على ذلك، تقرر إعطاء اللغة العربية مكانة أكثر أهمية للمطابقة بين الدستور والنظام التعليمي. فارتفعت نسبتها من 6 ساعات من إجمالي 30 ساعة في الأسبوع إلى 10 ساعات في المرحلة الأولى من التعليم الابتدائي و 8 ساعات في المراحل المتوسطة والنهائية منهُ مقابل 23 و 25 ساعة للفرنسية في الأسبوع؛ ولكن هذا "التحسين" ترافق مع قرار بإمكانية الاستغناء عن دروس اللغة العربية بالنسبة للأطفال الذين يتقدم آباؤهم بطلب إعفاء رسمي!

أذكِّر بهذه التفاصيل فقط ليعلم الشباب .. من أين نأتي!؟

في سيلبابي وجدت نفسي وكأنني ولدت من جديد...مدينة كبيرة وجميلة. ومدرسة نظيفة من الاسمنت المسلح مليئة بالناس والحيوية والنشاط...هنا تعرفت على الجرس والطاولات والمقاعد وكرة القدم وعشرات الألعاب ... تعرفت على حركة الكشافة والأمسيات الثقافية، إلخ.. لا مقارنة بين مدارس المدن ومدارس الأرياف المتنقلة من حيث التنظيم والبرامج والوسائل... بدأت الدراسة شهر اكتوبر 1957 وكنت التلميذ العربي الوحيد مع أخي وصديقي أحمد شعيتو (رحمه الله) في مدرسة من 7 فصول...و لكن – شهادة للتاريخ – لم أشعر يوما واحدا بغربة أو مضايقة أو تمييز أو تهميش أو اقصاء. عشت في انسجام ووئام وأخوة ومحبة بين إخوتي وأصدقائي..وأذكر على وجه الخصوص أصدقائي في الفصل : كمارا عالي گلاديو (Kamara Ali) وكمارا درامان (Kamara Dramane)، وكمارا سلي (Kamara Silly) وكوني مودي (Koné Mody)، وبا ألاسان (بالاس Ba Alassane BALAS)، وصوْ دمبا (Sow Demba)، وانجاي إبراهيما (N’Diaye Ibrahima)، وصمب تيام (Samba Thiam)، وكان هاديا (Kane Hadia)، وبا گاتا (Ba Gatta)، واندي تابارا افّال (N’Dèye Tabara Fall)، وسي أومو (Sy Oumou) بنت الحاكم سي إسماعيلا (fille du commandant Sy Ismaila)،،، هذه الأسماء محفورة في ذاكرتي منذ 1958 بما يدل على أن الصداقة كانت قوية والمدرسة مؤسسة جامعة فعلا.

ومن المعلمين أذكر السيد ببكر فال (Boubacar Fall) مدير المدرسة وقد ذكره الرئيس المختار ولد داداه رحمه الله في مذكراته بكثير من الثناء والإشادة. وهو والد الأستاذ اتيرنو افّال (Thierno Fall) رحمه الله. كما أذكر معلمي "ألديوما تراوري (Aldiouma Traoré) والد صديقي هارونا (Harouna) والمفتشين روبين وتجاني باه (Ba Tidiane et Robin)

الجو العام كان جو دراسة وكدّ وجدّ ومثابرة وخوف من الإدارة والمعلم والمفتش... ولن أنسى تقنيات عجيبة وسياسات إكراه كان المستعمر يستخدمها لفرض لغته ونشرها داخل الفصول وخارجه في ساحة المدرسة؛ ومنها على سبيل المثال تقنية "الرمز" (le symbole): أداة تعليمية لإجبار التلاميذ على التحدث بالفرنسية خارج الفصل. و هي عبارة عن عود خشبي صغير جدا يعطى لمن تكلم بغير الفرنسية... ومن وجد بحوزته في آخر الدوام يعاقب بالأعمال المنزلية، والواجبات الإضافية، والعقاب البدني، والحجز، والغرامة، إلخ... وقد وقاني الله شرّ ذلك.. 

- يتواصل بإذن الله -

ثلاثاء, 09/11/2021 - 11:50