وطَنُ الفقاعاتِ...

ليلى أبو شقرا

شغَلَتِ الفقاعاتُ رأسَه حتى كادَ أنْ ينفجرَ... ما سرّها يا تُرى؟ ومِنْ أين تظهر؟

«أقضي عليها البارحةَ فتعودُ اليوم للظهورِ، وأقضي عليها اليومَ فتعودُ غدًا... تعبْتُ مِنْ عبْثِها معي... ولا سببَ واضحٌ لعبثِها هذا».

مشكلتُهُ الواضحةُ لمْ تكُنْ في مقارَعَتِهِ الفقاعاتِ كلّما ظهرتْ، بل كمُنَتْ في مكانٍ آخرَ، في الحِكْمَةِ الكائنةِ خلْفَ هذه المقارعة، الحكمةِ التي كانَ يبحَثُ عنها، يسألُ، يفتّشُ... وكلّ ذلك منْ دونِ جدوى... بحثٌ من دون جواب... وكان إذا ما ارتحلَ النهارُ أو كاد، وَدَال لهُ التعبُ، اِستسلمَ للصخرةِ...

طالما أحبَّ الجلوس على تلك الصخرة القريبة البعيدة من الشاطئ، يستمتع بهذه البرودة المنعشةِ التي تَستقيها من رَحِم المياه والدفء الْمشغولِ من خيوط الشمس الغاربة، والْمُترنِّمَةِ على عزف الأمواج الْحَيِّيَة الْمُتسلّلة خِلسَةً لِتزرع قُبْلَاتِها على خُدودِ الصخورِ، وصخرتهِ من جُملتِها.

وكان في جلوسه يحتارُ بين أنْ ينظرَ خلْفَه لِيتبيَّنَ خُلوَّ ما خلَّفه مِنْ سبيلٍ مِنَ الفقاعات، أوْ أنْ يَنْظر إلى الموجِ العازف بالقرب من الشاطئ، أوْ أنْ يُرسل نظرَه إلى حيث لا نظرَ يَقدر على الوصول... لذا كان الناظرُ إليه يراه وكأنه مجنون أو مختل أو محتار... واختَلَف الناظرون في تصنيفه...

مرّة وبعد يوم طويل من تتبع الفقاعات ومقارعتها، تسلَّل إلى صخرته ليجد سكينَته بين برودتها ودفئها وترانيمها.

وَصَل، قَعَد، رفع ركبتيه إلى مستوى صدره، عانقهما بذراعيه وأرخَى رأسه عليهما... وكأنَّه لم ينمْ لدهر...

وَبِهَمْسِ صَمْتٍ بدأتِ الرطوبةُ تتسلَّل إلى بُطَيْنِهِ الأيسر، وعلى الرغم مِنَ القشعريرة التي ألَمَّتْ به، إلاَّ أنَّه رفع رأسه ببطءٍ شديد، ووَجَّه نظره بِاتجاه مصدر هذا البَلَل النديِّ...

«ما أنت؟!»

«نباتٌ أخضر؛ مولودٌ أنا من زُرقةِ البحرِ، وإرادة الصخرِ، ورحمةِ الأعماق...»

«لمْ أركَ هنا من قبلُ. ماذا تفعل على صدري؟!»

«لو لم أكُنْ على صدرِكَ لما وصلَ صوتي إليكَ ولما سمعتَني!»

«وما فائدة الصوت؟!»

«الصوت هو وجودُك الذي تَتَبلورُ من خلاله. كيف تعرفُ أنّك موجودٌ إذْ لم تمتلِكْ صوتًا؟»

«أنا موجود...» صمتَ وكأنَّ فكرةً داهمتْهُ فجأة! «أنا أتنفّس، أصحو، أقارع الفقاعات، أسكُن صخرتي ثم أتنفس... أنا موجود!...»

«ليس هذا الوجودَ الذي أقصد. ما تُسِرُّ به ليس وجودًا! أنت كائِنٌ بِحُكمِ التكوين مِنْ دونِ أنْ تكونَ حقيقَةً! أنتَ تقارعُ الفقاعات! كيفَ تقارعُ الفقاعاتِ وأنت تجهلُ أنّك غيرَ موجود؟! لا يقارعُ الفقاعاتِ إلاّ مَنْ كان ذا وجود...»

«أأنا موجودٌ إذًا من دونِ أن أدري؟؟؟!»

«لعلَّك كذلك... ولكنْ قلْ لي لماذا تقارع الفقاعات؟ لماذا تقضي أيامَك لاهثًا خلفها للقضاءِ عليها قبل أن تُسلِّمَ نفسَكَ للصَّخرة تَسْتكينُ إليها؟ وإلى أين تريدُ أن تصِلَ في سبيلِكَ هذا؟؟؟»

«وُلِدتُ فكانت الفقاعة الأولى التي وجدتني في مواجهتها، وعلِمتُ حينها أنّه من واجبي القضاء عليها وقدْ رفضت أنْ تنفضَ عن لحظتي أسوارها... يومها، نظرْتُ وجهَ أمي، ابتسمتُ لها، نهلْتُ رائحتها الزكية، أرحْتُ أناملي بين أناملها، غفوتُ قليلاً ثم ارتحَلْتُ لمقارعة الفقاعة...

نزلتُ الشارعَ لألعب وأترابي، لكنَّ إحساسَ الثقَلِ على أكتافي جعلني أتنبَّه إلى فقاعة لم أعهدْها سابقًا! طلبْتُ منها الرحيل، أنْ تتركني لفرحِ اللعب ومتعتِه وقد ارتطمَتِ الكرةُ بقدمي تبحثُ لها عن دفْعٍ جديدٍ باتجاه المرمى... فلَمْ تفعلْ... سجَّلتُ الهدفَ، نظرتُ إلى أترابي، غمَزْتُ بقبعتي، وارتحلتُ خلف الفقاعة أُقارعها...

يومَ دخلتُ المدرسةِ استقبلتْنِي فقاعة، مع كلِّ أستاذٍ قابلتني فقاعة، على مقاعد الجامعة جلسَتْ بقربي فقاعة، وبعد الجامعة... بعد الجامعة كلّ يوم فقاعات لا تتركني إلاّ إذا قارعتها...»

«ومن ينتصر؟!»

«النصر سجالٌ، لكنَّ قوّتَها المتجددةَ تستنزف قوايَ يومًا بعد يوم... لا أعلم مِنْ أين تأتي بقوتها، ولا مِنْ أين تستمدُّ تجدُّدَها... ما يحيّرُني أنها تتجدَّد وكأنَّها لا متناهية... أُنْظرْ! هي لا تتجدد فحسب، بل تتعاظمُ قوتُها كذلك... وكأنها تُسَيِّر كلَّ شيء مع أنها تجلسُ في مكانها المتعالي، ترقُبُني كما تَرقُب المئات مثلي، تبتسمُ، تستغلُّ تعبَنَا، تَسخرُ منِّي كما أعتقدُ أنّها تَسخرُ منهم.. وكأنَّها... وكأنها تمارسُ نوعًا من السيطرة علينا، وكأنَّنا نحن لها عبيد أو أتباع... لكنّي...» وهنا دبَّ بعضُ التردُّد أو كاد...«لكنّي لا أتمكَّنُ مِنْ تسليم نفسي إليها كالغير!... أيُّها النبات، أنظرْ هناك، أترى هذه الفقاعة الكبيرة؟! أتعرفُ كَمْ مثلي أَسَرتْ بداخلها؟! مَنْ تُغلِقُ عليه أسوارُ الفقاعة لا يكونُ له خروجٌ يومًا أو تحررٌ... أنظرْ جيدًا، أتراهُم كيف يبتسمون ويرقصون مع أنَّهم لا يملكون معناهم؟ الحريةُ معنًى لا أتمكَّنُ مِنْ هجْرِه، المحاسبةُ معنًى لا أتمكَّنُ مِنْ نثْرِه، الفرديَّة معنًى لا أتمكَّنُ مِنْ مَحْوِه، النقْد معنًى لا أتمكَّنُ مِنْ نقْضِه، المقارعة معراجٌ لا أتمكَّنُ مِنْ نبْذِه...

أنا مُتعبٌ نعم، أنا مُرهقٌ نعم... قد أقول ربما يَئِستُ... أحيانًا أشعرُ بأنّي يَئِست لا تعبتُ فحسب، لكنِّي على الأقل، لا أستسلم... لا أريد أبدًا أنْ أكون هُم!!!»

«أمتأكدٌ أنَّك لا تريد أن تكون هُم؟!» قالها النباتُ بصوتٍ وإنْ بَدا هادئًا إلاّ أنَّه كالْجُلمود كانَ وقَدْ مَكَّنه المكانُ مِنْهُ والزمانُ... «أمتأكدٌ أنّك لا تريد أن تكون هُم؟؟!»

«... نعم... نعم... لا يُمكنني أنْ أكونَ هُم، ولا أريدُ أنْ أكون!»

«إذًا أنت موجود!!! هذا صوتُكَ الذي أضعْتَ قَدْ وجدَك... لا تُضِعْه مرّة أخرى، اِحمِهِ وحافِظْ عليه!»

قال النباتُ كلمتَه وصمتَ... أمّا هو فقدْ اِرتسمَتْ على شفتيه ابتسامةٌ وهو يرى خُضرةَ النباتِ تشتعلُ بنورٍ فضِّيٍّ مُذَهَّبٍ، يَرتفعُ مِنْ على صدرِهِ إلى عينيه فَعقلِهِ فَروحِهِ، ويَغمُرُه بدفءٍ عجيبٍ... دفء وعْيِ الوجود، دفء الصوت...

«غدًا يومُ نزالٍ جديد! خافي مِنّي أيتُها الفقاعاتُ!!! وطني صوتي لا وطن الفقاعات!»

نقلا عن إيلاف

سبت, 15/01/2022 - 11:38