«نتفليكس».. وكَشْف المستور

سعاد فهد المعجل

مُضحِك حتى البكاء ما تقدّم به أحد المحامين من دعوى قضائية تُطالب بحجب منصّة «نتفليكس» في الكويت، ومن قبله كان قد تقدّم محام من مصر بدعوى مشابهة. المضحك فيه أن مقدّم الدعوى استَفَزّته مشاهد «الانحلال الأخلاقي» لأنها جاءت بِلَكنة عربية لا أكثر، حيث ضمّن شكواه إشارة الى الفيلم العربي «أصحاب ولا أعز»، الذي أثار ما أثار من هجوم واستياء عبر أنحاء الوطن العربي بدعوى مخالفته التعاليم الإسلامية وتقديمه محتوى يُعزّز فكرة الانحلال والشذوذ.
الجانب المُضحك في الدعوى إذاً هو لأسباب تَتَعلّق بثورة المجتمعات العربية ضد «نتفليكس»، لأنها تجرّأت وبثّت الانحلال باللكنة العربية، أي أنه لو كان بغيرها - وهو بالمناسبة الكثير مما تعرضه «نتفليكس» من أفلام ومسلسلات تروّج للإثارة والعنف وأشكال الانحلال الأخلاقي - أقول لو كان بغير اللكنة العربية لما ثارت ثائرة العرب وصاحبنا المحامي معهم.

أما الجانب المُبكي في هذا المشهد فهو أن مثل هذه الدعوى تأتي لِتَصطدِم بواقع وعالم تكنولوجي ثلاثي وهولوغرامي الأبعاد، عالم تَداخَلَت فيه الثقافات وتَطابَقَت فيه العادات، عالم سقَطَت معه كل الحدود الفاصلة بين الأمم، ولم تعد التضاريس الاجتماعية والثقافية واضحة المعالم، عالم لن يكون بإمكان أي أحد مواجهته أو وَقْف تقدّمه أو حتى التأثير فيه من دون أن يملك نفس الأدوات التكنولوجية المتقدّمة.

عالم أفرزته ثورة تقنية هائلة، عالم تحكمه معادلات إلكترونية مُسَيّرة من أعالي الفضاء، عالم تَفْرضه أقمار صناعية وشبكات إنترنت تخترق كل الحواجز وتقفز على كل المعوقات.

التقاضي بلا شك حق كفله الدستور، فبحسب الماده 45 فإن «لكل فرد أن يُخاطب السلطات العامة كتابة وبتوقيعه»، وهذا الحق مكفول للمواطن وللوافد، حيث نصّت المادة 166 من الدستور على أن «حق التقاضي مكفول للناس ويُبيّن القانون الإجراءات والأوضاع اللازمة لممارسة هذا الحق».

الاختلاف إذًا مع المحامي مُقَدّم الشكوى لا علاقة له بحقّه المشروع في التقاضي إطلاقاً، بل على العكس لأن اللجوء إلى القضاء غالباً ما يعكس وعي المواطن بحقوقه بشكل عام.

الاختلاف هو حول منطقية مثل هذه الشكوى في أساسها، فالمنع أو الحجب اليوم في ظل مثل هذا الانفتاح الكوني الهائل هو بمنزلة مجادلة الفراغ. و«نتفليكس» ليست وحدها في بث ما تبث أو في اختراق حواجز التقاليد والأعراف والقيم والعادات، فهنالك عشرات المنصّات العالمية، التي لا يخضع أي منها للقيم والعادات العربية. فهل يعني ذلك أنه بالإمكان يوماً ما الانغلاق عن مثل هذا الكَم الهادر من الترفيه والأفلام والمعلومات والإعلام؟

العقل والمنطق يقولان إن علينا اليوم التعامل مع ما نراه خطراً على ثقافتنا بحكمة وحنكة أكثر براعة ودقة. فالإعلام اليوم بأدواته الجديدة أصبح من أكثر أدوات التواصل البشري جدلاً وإثارة وخطورة، وهو يأتي عابراً فضاءات شاسعة تضم مليارات من البشر مُتَفرّقين على آلاف الثقافات المختلفة، مما يعني أن التعامل المحلّي البحت مع مثل هذه الآلة الهائلة هو بلا شك ضرب من المستحيلات.

«نتفليكس» ليست وحدها، فهنالك «أبل تي في» و«ديزني» و«أمازون برايم» و«تليغرام» و«يوتيوب» وغيرها عشرات من النوافذ الإعلامية الترفيهية، التي تفرض بصماتها على زوايا الأرض الأربع. وإذا كان فيلم «نتفليكس» الأخير، الذي أثار نوبة الغضب العربية، قد تصدّر قائمة الأعمال الأكثر مشاهده بعد ثلاثة أيام فقط من عرضه، فإن المشكلة هنا لا تكمن فقط في محتوى «نتفليكس»، وإنما في التناقضات التي باتت تتحكّم بالوعي العربي، الذي أدمن كَشْف المستور بعد سنوات طويلة من القمع والكَبْت والرّفْض مع أصوات هامسة تدعو إلى الحَجْب بحجّة «استهداف القِيَم العربية».

قد يكون فيلم «أصحاب ولا أعز» جريئاً وغير تقليدي، لكنه لم يأتِ بجديد، فكُل ما تناوله من قضايا موجود أساساً في كل المجتمعات ولا تُستَثْنى من ذلك المجتمعات العربية. فَعَدَم الاعتراف بالمشكلة لا يَنفيها ولا يَلغيها، وبدلاً من أن نَغضَب لأن «نتفليكس» تحدّثت باللكنة العربية عن الانحلال الأخلاقي، علينا مواجهة لا معاقبة من أشار إليه وكَشَفَ مستوره، ولتكن البداية من مواجهة تناقضاتنا المُحزنة.

نقلاً عن "القبس"

أربعاء, 09/02/2022 - 11:15