العنف والعنف المضاد

المصطفى اكليب

علينا جميعا أن نفكر بهدوء :
لكي لا ننزلق إلى مستنقع العنف و هاويته، مثلما وقع لأشقائنا فى المشرق العربى مما أدى إلى إراقةِ أنهار من الدماء وتمزيق الكيان و انفصام عرى اللحمةِ و الوجدان، فنتج عن ذلك شرخ عميق يصعبُ علاجه، إلى درجة أصبح البعض يردد "أنتو شعب و إحن شعب لين رب و ليكو رب".

من يتحمل مسؤولية العنف :

لن أدخل فى الجدل الدائر منذ فترة حول تحميل مسؤولية العنف لهذا الطرف أو ذاك، و لكننى أعرف أن التاريخ كان إلى عهد قريب يكتبه المنتصرون، الذين يوزعون على خصومهم الألقاب الدالة على الشر كلهِ " الزنادقة، الخوارج ، الفسقة ...."
مثلما فعل بعض خلفاء بنى أمية و بنى العباس و غيرهم. 
إلا إن هذه القاعدة لم تعد سارية المفعول فى زماننا هذا ، لأن أحداث العنف تم توثيقها منذ بداية اشتعالها 2011 ، بالصورة و الصوت بحيث يمكن لكل باحث فى المستقبل أن يعيد ترتيبها لبناء صورة شمولية مركبة ، كما يفعل المؤرخ بوثائقه بعد جمعها و تحليلها و نقدها ، كما تم توثيق الفتاوى و الفتاوى المضادة كذلك. 
و ستحكم الأجيال فى المستقبل على كل ذلك لأنها الأقدر على الموضوعية و الإنصاف فنحن لا نزال غارقين فى معمعان هذه الأحداث التى تكاد تجرف الجميع، لا قدر الله.

السلطه و المعارضة :

لم تعد السلطه فى أي بلد من بلداننا العربية هي وحدها من تكتب متون التاريخ ، و على المعارضة _أيا كانت طبيعتها_ أن تكتفي بكتابة الهوامش ، هذا إن سمح لها بممارسة حقها فى الكتابه ، بل أصبح الجميع مشاركا بدرجات متوافة فى كتابة المتون.

علينا أن نتذكر:

ينبغى أن نتذكر أن ممارسة العنف فى تاريخ أمتنا المعاصر ، أمتنا المثقلة بجراحها لم يبدأ منذ 2011 ، بل يعود إلى فترات أقدم من ذلك ، حيث أن أغلب التيارات السياسية و الفكرية قد مارست العنف ضد بعضها البعض ، مارستهُ فعلا أو ردة فعل ، خصوصا تلك التيارات التى وصلت إلى مقاليد السلطة فملأت سجونها بخصوم السياسة و الفكر و حملتهم على المشانق ، مدعيةً أنها وحدها من تعرف مصالح الشعوب و من يحق لها الحديث باسمها و التفكير نيابةً عنها ، مع أن تلك التيارات لم تصل إلى مقاليد السلطة بإختيار الناس و لا برضاهم ، و لكن فى المقابل فإن نزلاء السجون من أهل الفكر و السياسة من تيارات الرفض لم يكونوا أكثر ديمقراطية و لا قبولا للرأيى المخالف من أصحاب السلطة. 
و هذا يعنى أن الجلاد و الضحية كانا يفكران بنفس الطريقة تقريبا.

مستودع للعنف:

لقد أصبح تاريخنا العربى المعاصر "مستودعا" يختزن العنف:
ممارسة و تفكيرا، بحيث أن إستخدام العنف هو أول وسيلة تخطر على بال أحدنا و هو بصدد التفكير فى التعامل مع خصومه فى مجال السياسة و الفكر أثناء حدوث الأزمات .
و لكل منا سلفه الذى يعتمد عليه فى تلك الممارسة و فى ذلك التفكير. 
و بالتالى فليس صحيحا أن العنف ميزة لتيار بعينهِ أو خاصية من الخصائص التي تلازمهُ.
بل لعل سيغموند فرويد، مؤسس التحليل النفسي يجد فى تاريخنا العربى المعاصر، القائم على العنف و التحريض عليه ما يؤكد نظرته إلى الإنسان ( .......
ليس الإنسان بذلك الكائن الطيب السمح ، ذى القلب الظمآن للحب الذى يزعم الزاعمون أنه لا يدافع عن نفسه إلا إذا هوجم ، و إنما هو على العكس من ذلك كائن تنطوى مكوناته الغريزية على قدر لا يستهان به من العدوانية.)
إلا أن أريك فروم يؤكد أن النزعة العدوانية في الإنسان التي يسميها " بالطاقة التدميرية الكامنة" إنما تخرج إلى العلن وتصبح فاعلة بسبب ما يحيط به من أسباب وظروف خارجية .
وعلى ضوء ذلك نستطيع أن نفهم أن جماعات العنف تخرجت من السجون وأقبية المخابرات ، ولم تتخرج من المراكز التعليمية أو من المعاهد والجامعات .
قد يقول قائل إن الغلو والتطرف هو من إنتاج عقلية دوغمائية وثوقية إقصائية تفهم نصوص الدين فهما منحرفا وتؤوله تأويلا خاطئا ، وأن الخوارج _ وهم الغلاة في تاريخ هذه الأمة _ لم يتخرجوا من سجون الأنظة ، فأقول بأن في ذلك جانبا كبيرا من الصواب ، غير أن أغلب المنتمين إلى الخوارج كانوا أعرابا يحفظون نصوصا يفهمونها على ظاهرها فهما حرفيا ، ولا سبيل إلى مواجهة هذا المسلك وهذا النهج إلا بالتعليم وبفتح مزيد من المراكز والمعاهد والجامعات.
أما العقلية الإقصائية فهي موجودة لدى بعض المنتمين إلى كل التيارات من الإسلاميين ومن غيرهم .
فكل من يدعوا إلى اسكات مخالفيه أو منعهم من التعبير عن آرائهم أو من المشاركة في الحياة السياسية العامة ينطلق من هذه النظرة الأحادية .
والعقلية الإقصائية تتجلى من خلال ما يسميه عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو بالعنف الرمزي الذي يكون الخطاب وسيلة لنشره وتكريسه وقد يتم ذلك أحيانا دون وعي من المتلقي بل بتواطئ منه " مما يعني أن هذا الشكل من العنف لا يحتاج إلى السلطة أو إلى قوة من أجل تنفيذه بل فقط إلى اقحام الهيمنة في سائر الخطابات والأشكال الثقافية والدينية "
لطالما قرأنا كتبا لاتزال تطبع ويعاد توزيعها ونشرها تمثل ميراثا سياسيا وفكريا لتيارات متعددة تصف منافسيها في السياسة وخصومها في الفكر : بأعداء الأمة والوطن ، وبالعملاء والتبعية للأجنبي ، وبالتطرف والإرهاب وفي المقابل نجد كتبا لتيارات أخرى تفسق الخصوم وتبدعهم....
ومماأدى إلى انتشارهذا الخطاب الإقصائي المليء بالحقد والكراهية والتحريض ضدالخصوم هو الإصطفاف والتخندق الذي سلكته بعض الفضائيات العربية التي تحولت برامجها إلى نوع من الهجائيات المملة التي لاتحترم أدنى مستويات العقلانية الحجاجية أوصحة المعلومات المقدمة. 
وقدتعزز هذا المنحى والتوجه بانتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبح بعضها منابر للشحن وممارسة العنف اللفظي .

في هذا البلد

علينا أن نتبنى نموذجا في الحكم يختلف عن نماذج إخوتنا في المشرق ، فالأقربون أولى بالإتباع حيث استطاع أشقاؤنا في تونس والمغرب عبور هذه المرحلة بسلام وبأقل الحسائر لأن الدولة الديمقراطية التي تلتزم بمنظومتها القانونية وتحترم قيمها الأخلاقية قادرة على تغيير العقليات وترشيد الخطابات؛فالحوار المجتمعي المفتوح الذي لايقصي طرفا أوتيارا مهما كانت المآخذ عليه هو الوسيلة الأفضل لتجاوز الأزمات وتحقيق التقارب بين الخصوم المتشاكسين أو المتنافسين يقول الفيلسوف المغربي طه عبدالرحمن في كتابه أصول الحوار منوها بأهمية الحوار((إن تواصل الحوار بين الأطراف المختلفة ، فئات أو أفرادا يفضي مع مرور الزمن إلى تقلص شقة الخلاف بينهم...
فإذا أنزل الخلاف منزلة الداء الذي يفرق ، فإن الحوار ينزل منزلة الدواء الذي يشفي منه...)).
ومن فوائد الحوار أنه يسهم في توسيع العقل وتعميق مداركه ولاحوار إلا حيث يوجد الإختلاف. 
فعلينا في بلاد شنقيط أن نتحاور بأدب حوارا مجتمعيا بعيدا عن لغة التخوين والتلويح بالعصا في وجوه المخالفين لحملهم وارغامهم على السير في ركاب المؤيدين ، فالإختلاف سنة كونية لايمكن إلغاؤه بقرار سياسي((ولايزالون مختلفين إلامن رحم ربك ولذلك خلقهم)).
وعلى المجتمع بكل مكوناته الفاعلة أن لا يظل يراقب الأحداث كأنها لا تعنيه ، بل عليه أن يكون موجها وحكما ، لأن السفينة إذا تم خرقها تضرر الجميع

.......................

نقلا عن صفحة الكاتب

سبت, 06/10/2018 - 20:20