العقوبات الامريكية على ايران رسالة للأمة كلها

سعيد الشهابي

أهي حرب اقتصادية كما يسميها الرئيس الايراني؟ هل هي العقوبات الكبرى وفق الخطاب الامريكي؟ هل هي تعبير عن فشل سياسي ودبلوماسي امريكي في الشرق الاوسط، كما يعتقد بعض المحللين؟ ام هي محاولة من الرئيس الامريكي لاثبات التزامه بوعوده والتزامه بحماية «اسرائيل» وكسر ارادة التغيير لدى الفلسطينيين وبقية شعوب المنطقة؟ قد تكون العقوبات التي فرضها الرئيس دونالد ترامب قبل اسبوع على الجمهورية الاسلامية الايرانية كل ذلك. كما قد تكون محاولة لتحقيق فوز للجمهوريين بمقاعد الكونغرس التي اجريت بعد يوم واحد من اعلانه فرض العقوبات. الامر المؤكد انها لن تركع طهران ولن تقلص نفوذها الاقليمي. ولكن مؤكد كذلك ان الاقتصاد الايراني سوف يصاب بضربة موجعة، ولكنها ليست قاضية. فعلى مدى اربعة عقود عاشت الجمهورية الاسلامية تحت طائلة الحصار الامريكي الذي شاركت الدول الغربية فيه ايضا. مع ذلك لم يؤد ذلك لسقوط نظامها الاسلامي او تراجع الثقة في قياداتها الدينية او السياسية.
هذه العقود الاربعة شهدت تراجعا كبيرا للمجموعات المعارضة التي حملت السلاح لاسقاط النظام وتعاملت مع الانظمة المناوئة له. ولا يشكك احد بقدرة النظام على البقاء وتجاوز العقوبات والتعايش مع الظروف الناجمة عن تداعي العملة وتراجع الاقتصاد. وقد تعلمت منذ انتصار ثورتها في شباط/فبراير 1979 كيف تدير شؤونها الاقتصادية، واقامت تحالفات مع دول كبرى. فبالاضافة الى ان العقوبات لا تسقط نظاما يحظى بشعبية داخلية، فقد وسعت ايران تحالفاتها الاقليمية واصبحت الآن أقل عرضة لتأثير العقوبات الامريكية. فلديها علاقات متينة مع جيرانها، ابتداء بتركيا مرورا بالعراق وثلاث دول خليجية (الكويت وقطر وعمان) وباكستان وافغانستان، بالاضافة لعلاقاتها التي لم تضعف مع روسيا والصين والهند. ومما يخفف من آثار العقوبات الامريكية التي فرضت في الذكرى التاسعة والاربعين لاحتلال السفارة الامريكية في طهران على ايدي مجموعات طلابية، تعمق الرفض الدولي للسياسات الامريكية خصوصا منذ صعود دونالد ترامب. ويشير المحللون الى ان بلدا مثل كوبا التي كانت تحت طائلة العقوبات اكثر من خمسين عاما اصبح لديها اقتصاد متين واكتفاء ذاتي في جوانب شتى.
العراق عانى كثيرا تحت العقوبات التي استمرت اكثر من عشرة اعوام، لكن نظامه السياسي السابق لم يسقط نتيجة لم يسقط بسببها، بل بحرب جائرة في العام 2003 شنها التحالف الانكلو ـ امريكي خارج الشرعية الدولية او التوافق الاقليمي حولها. الامريكيون برروا الحصار بانه محاولة لوقف النفوذ الايراني في المنطقة، وهي عقوبات لم يتناغم معها احد من السياسيين ذوي السمعة المرموقة، وسعت دول كثيرة للضغط على امريكا لاستثنائها من عقوبات اعلنها ترامب لتستهدف من لا ينفذ اوامر الحصار الامريكية. هذا الاستياء ناجم من جانب آخر عن قرار ترامب في شهر أيار/مايو الماضي الغاء الاتفاق النووي الذي وقعته ست دول كبرى مع ايران في العام 2015.
وكان ترامب قد تعهد خلال حملته الانتخابية بالغاء ذلك الاتفاق بعد ان مارس الاسرائيليون ضغوطا كبيرة على البيت الابيض الذي كانت له ميول صهيونية قبل ذلك. الامر المؤكد ان واشنطن لم يرق لها ما يجري في عدد من دول المنطقة. فهي منزعجة من الموقف العراقي الذي اعلن انه سينظر للعقوبات من زاوية المصلحة العراقية. وفشلت السياسة الامريكية في اليمن بسبب صمود اهلها وتصديهم للدول التي تعتبرها «محتلة»، وتتصاعد الاصوات يوميا مطالبة بانسحاب التحالف الانكلو ـ امريكي من هذه الحرب التي استحالت على الحسم واظهرت حدود القوة العسكرية المفرطة، واصبحت مشكلة ليس لليمنيين او السعوديين فحسب بل لكل من واشنطن ولندن اللتين تواجهان دعوات متواصلة للانسحاب منها.

هل العقوبات الكبرى ضد إيران هي تعبير عن فشل سياسي ودبلوماسي أمريكي في الشرق الأوسط، كما يعتقد بعض المحللين؟

العقوبات الامريكية تعكس امورا عديدة: اولها عمق التأثير الاسرائيلي على القرار الامريكي. فزعماء الكيان الاسرائيلي لم يشعروا يوما بالامن او الشرعية، ويعتبرون ايران عاملا اساسيا في ذلك الاضطراب النفسي والمعنوي. ثانيا ان امريكا تتصرف برعونة مكشوفة، وتتحدى العالم كله. فالغاؤها الاتفاق النووي من طرف واحد اضعف مصداقيتها خصوصا لدى حلفائها الاوروبيين. فهو استسخاف لارادة هذه الدول واستصغار للجهود التي بذلت على مدى عشرة اعوام للتوصل لذلك الاتفاق. كما يؤكد عمق العداء الامريكي للتيار الاسلامي الذي تمثله ايران، والرغبة في احتواء ظاهرة «الاسلام السياسي». فاستهداف المنظمات التي تواجه الاحتلال الاسرائيلي انما هو جزء من المشروع الامريكي ـ الصهيوني. ان العقوبات الامريكية المفروضة على ايران لا تنحصر في اهدافها السياسية على نظامها السياسي والديني فحسب بل تهدف لمحاصرة الظاهرة في مواقعها المتعددة. فالتدخلات الامريكية قضت على المشروع الاسلامي في العراق، واقصيت المجموعات «الاصولية» من الحكم بعد ان فقدت جانبا كبيرا من المصداقية بسبب سوء الادارة والفساد المالي والسياسي.
مارست امريكا ضغوطا على رئيس الوزراء، الدكتور حيدر العبادي وطاقمه لتطبيع العلاقات مع السعودية، فارتكب واحدا من اكبر اخطائه السياسية. فكان من نتيجة ذلك التطبيع قلب الطاولة على الاسلاميين واسقاط حزب الدعوة من الحكم للمرة الاولى منذ التغيير. واستطاع المال النفطي السعودي الذي انفق في المناطق الجنوبية (الشيعية) على نطاق واسع تعميق المشاعر السلبية لدى قطاعات شعبية عراقية ازاء ايران. وهكذا استدرج الاسلاميون الشيعة لضرب انفسهم بسذاجة متناهية. واقصي الاسلاميون عن الحكم في مصر بالانقلاب العسكري في العام 2013، وذلك بعد ان استدرجوا لسياسات ومواقف افقدتهم الشعبية والتعاطف الشعبي ولم يتوفر لهم الدعم من القوى التي استدرجتهم لتلك السياسات. كما ضرب الاسلاميون في البحرين وصدر حكم بالسجن المؤبد ضد الشيخ علي سلمان، رئيس اكبر كتلة برلمانية في الدورة قبل السابقة. وحتى في تونس لم يعد للاسلاميين دور فاعل في الفضاء السياسي بعد ان اعيدت اعمدة النظام السابق الى السلطة بذرائع شتى.
وبالتالي فمن الخطأ النظر للعقوبات الامريكية المفروضة على ايران بمعزل عن السياسة الامريكية تجاه المشروع الاسلامي في اطاره العام. وقد اثبتت حقبة الربيع العربي ان تحالف قوى الثورة المضادة يسعى للاستفراد بمن يريد ضربه ويطرح اسبابا لذلك الاستهداف مختلفة عن دوافعه الحقيقية. فهو يضرب ثورة شعب البحرين ويثير ضدها البعد المذهبي ليمنع التعاطف الاسلامي معها، ويستهدف التجربة الديمقراطية في مصر بعد الثورة هادفا لمنع قيام منظومة ديمقراطية حقيقية، لكنه يعلن للرأي العام انه يستهدف الاخوان المسلمين. ويضرب ثورة اليمن بما اسماه «المبادرة الخليجية» ليفرض رئيسا مقبولا لدى قوى الثورة المضادة، وعندما يحدث التحرك ضده يطرح مقولات مثل «الانقلاب على الشرعية» او «توسع النفوذ الايراني في اليمن عبر الحوثيين». ولان الحقيقة والدوافع مختلفة وترتبط بالسياسات التوسعية لكل من السعودية والامارات، فسرعان ما تتضح الحقيقة، ولكن بعد فوات الأوان.
اتضح الآن ان اليمن يخضع لاحتلال غاشم، أشد وطأة مما لحق بالبحرين بعد التدخل السعودي ـ الاماراتي في العام 2011. ما يفعله التحالف الذي تقوده السعودية لا ينسجم مع اهداف ثورة اليمنيين ضد نظام علي عبد الله صالح، بل انه محاولة للسيطرة على اليمن وموانئه لبسط النفوذ عليها. وهذا ما يفعله ترامب. فهو يخطط لضرب ايران لسبيين رئيسيين: مشروعها الاسلامي الذي يرى فيه منافسا للمشروع الغربي، وسياساتها الرافضة للاعتراف بالكيان الاسرائيلي ودعم المقاومة ضده. اما الحديث عن تمويل الارهاب فهو محاولة لتبرير سياساته وتحييد الآخرين. ويفترض ان حادثة قتل الاعلامي جمال خاشقجي كافية لاعادة توجيه السياسة الامريكية في الشرق الاوسط نحو الحرية والديمقراطية والاصلاح، ولكن ترامب يسعى جاهدا لصرف الانظار عن تلك الجريمة في مقابل المليارات السعودية.

القد س العربي

اثنين, 12/11/2018 - 10:25