موريتانيا والغاز (3) ... حجم العائدات مرهون بمستقبل السوق

يربان الحسين الخراشي

تعد العقود في مجال البترول والغاز نموذجا متميزا للعقد الإداري، وقد تخضع لسلسلة من المفاوضات الصعبة على درجة عالية من الاحتراف خاصة في حالة نمط عقود المشاركة في الإنتاج التي تبنتها الاتفاقية الموقعة بين بلادنا و شركتي بريتش بتروليوم، و شركة كوسموس أنرجي وهذا ما يتطلب أن تتحلى بلادنا  بخبرة تقنية، وجيولوجية، وبيئية، ومالية، وتجارية، وقانونية جيدة حتى تضمن ممارسة حقوقها في مد سيادتها الوطنية على مواردها الطبيعية وتحافظ على سلامة بيئتها البحرية الحاضنة لثاني أكبر ثروة سمكية في العالم، ويتميز هذا النوع من العقود بتحمل الشركة الأجنبية كافة مخاطر البحث والتنقيب، ولا تسترد شيئا مما انفقته إذا لم يتم اكتشاف الغاز أو النفط  بكميات تجارية، أما في حالة العكس فإنه يحق لها استرداد تكاليف التشغيل والتطوير عن طريق ما يسمى "بنفط أو غاز التكلفة"، و تتقاسم المتبقي الذي يعرف "بنفط أو غاز الربح" مع الدولة صاحبة الثروة وفقا للنسب المتفق عليها، ورغم فعالية هذا النوع من الاتفاقيات للبلدان التي تملك ثروات نفطية أوغازية معتبرة، و ينقصها رأس المال والمستوى الفني لاستخراجها، ورغم كون هذا النوع من الاتفاقيات يمنح الدولة حق تدريب كوادرها الوطنية، وتشغيل الايدي العاملة من مواطنيها وغير ذلك من المزايا،  إلا أن هذا النوع من الاتفاقيات يتميز بعيب تصميمي هيكلي تعاقدي يجعل من مستقبل عائدات الدولة المانحة للعقد مرهون بشكل قوي بوضعية مستقبل السوق الدولي للمادة الخام، التي هنا تعني الغاز الطبيعي المسال،  فيا ترى ماهو مستقبل السوق العالمي للغاز الطبيعي المسال ؟؟

(1)

زيادة حجم المعروض عالميا

من المتوقع أن يشهد العالم طفرة كبيرة في إنتاج الغاز الطبيعي المسال خلال السنوات القليلة القادمة، حيث تشير توقعات التقرير الصادر عن الاتحاد الدولي للغاز (IGU)  حول الغاز الطبيعي المسال لسنة 2018 أن الطاقة الإنتاجية التسييلية للعالم حتى مارس 2018 قد بلغت حوالي 369.4 مليون طن سنويًا، بزيادة قدرها 32.2 مليون طن عما كانت عليه نهاية سنة 2016، كما  أشار التقرير إلى مشاريع لتسييل الغاز تحت البناء والتشييد في العالم تتركز أساسا في أستراليا، و أمريكا تصل طاقتها الإنتاجية إلى 92 مليون طن سنويا، ومن المنتظر اكتمالها بحلول 2020 ، بل إن التقرير قد ذهب إلى أبعد من ذلك بتقديره لإجمالي حجم القدرة الإنتاجية التسييلية للمشروعات المقترحة لما بعد سنة 2020، التي قدرها التقرير بحوالي 875 مليون طن  من بينها حوالي 24 مشروع حول العالم لمنصات إنتاج الغاز الطبيعي المسال العائمة (FLNG) تصل طاقتها الإنتاجية إلى حوالي 180.5 مليون طن سنويا، والتي من بينها مشروع بلادنا الذي قدر التقرير طاقته الإنتاجية بحوالي 4.6 مليون طن سنويا، والسنغال بطاقة إنتاجية تصل إلى 2.3 مليون طن، وكذلك من بينها أيضا المشاريع القطرية التي من المنتظر أن ترفع طاقتها الإنتاجية للغاز المسال من 77 مليون طن إلى 103 مليون طن سنويا في أفق 2024.  لكن وصول مشروع واحد فقط إلى مرحلة القرار النهائي للاستثمار (FID) خلال عام 2017 يطرح أكثر من سؤال حول المصير النهائي لهذه المشاريع، وهل سترى النور أم ستبقى مشاريع على الورق، وهذا ما يجعل زيادة حجم المعروض عالميا مرهون بمدى تنفيذ هذه المشاريع المقترحة. تجدر الإشارة إلى أن حجم التجارة العالمية للغاز الطبيعي المسال لسنة 2017 قد وصل إلى 293.1 مليون طن بزيادة قدرها 35.2 مليون طن، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 12 % عما كانت عليه سنة 2016 .

(2)

زيادة حجم الطلب العالمي

تتوقع الكثير من الدراسات أن ينمو الطلب العالمي على الغاز الطبيعي خلال العقدين القادمين بوتيرة أسرع من الطلب على أي نوع  من أنواع الوقود الأحفوري أخرى، حيث من المتوقع أن ترتفع حصته في تركيبة مصادر الطاقة العالمية إلى 26% بحلول 2040  في ظل تراجع لحصتي النفط، و الفحم إلى نسبة 29% ، و 20 % على التوالي، وتشير التوقعات إلى أن حصة الغاز الطبيعي المسال من النمو المتوقع للسوق العالمي للغاز ستنمو بمعدل حوالي 10% سنويا، حيث من المتوقع أن يبلغ إجمالي الطلب العالمي على الغاز الطبيعي المسال حوالي 450 مليون طن في أفق 2030، و ستغذي هذا الطلب المتنامي السوق الآسيوية عامة، وخاصة السوق الصينية.

الصين التي تجاوزت كوريا الجنوبية سنة 2017 لتصبح ثاني أكبر دولة مستوردة للغاز الطبيعي المسال بحجم واردات بلغ 39.5 مليون طن بعد اليابان التي استوردت حوالي 84.5 مليون طن من المتوقع أن تصبح أكبر دولة مستوردة للغاز المسال خلال العشر سنوات القادمة، بل لا أكون مبالغا إذا قلت أن مستقل الغاز الطبيعي المسال يعتمد بشكل كبير على مدى تطبيق الصين لسياستها البيئية المتمثلة في إحلال الغاز محل الفحم، حيث يشكل استهلاك الأخير حاليا حوالي 60 % من إجمالي استهلاك  مزيج مصادر الطاقة في الصين بينما تصل نسبة استهلاك الغاز حوالي 7.5% فقط، وتخطط الصين لرفع هذه النسبة إلى حوالي 10 %، و 15% في أفق 2020 و2030 على التوالي، وهذا ما يعني رفع اعتماد الصين على الغاز المستورد إلى حوالي 65 % من حجم حاجياتها التي من المتوقع أن ترتفع إلى 450 مليار متر مكعب سنة 2030، و ربما هذا ما قاد وكالة الطاقة الدولية أن تتوقع أن تساهم الصين بنسبة 37٪ من نمو استهلاك الغاز الطبيعي العالمي في الفترة 2017-2023 ، وهذا المعدل أعلى من أي مساهمة دولة أخرى مهما كانت، حيث من المتوقع أن يصل حجم واردات الصين من الغاز الطبيعي بحلول عام 2023 إلى 171 مليار متر مكعب حصة الغاز الطبيعي المسال منه أكثر من النصف.

يعتبر التوجه العالمي لتغيير بنية مزيج مصادر الطاقة في العالم مسار لا رجعة فيه، حيث من المتوقع أن ترتفع حصة مصادر الطاقة الصديقة للبيئة، والتي على رأسها الغاز الطبيعي في السوق العالمي للطاقة، وإذا كانت زيادة حجم المعروض عالميا من الغاز المسال المتوقعة بعد مضاعفة العالم لحجم طاقته التسييلية مرهونة بمدى تنفيذ المشاريع المقترحة، فإن مدى استيعاب الطلب العالمي لهذه الزيادة الكبيرة في المعروض يتوقف بشكل كبير على أداء السوق الصيني، وأداء السوق الصيني مرهون هو الآخر بمدى تطبيق الصين لسياسة إحلال الغاز محل الفحم من جهة، وجهة أخرى بمدى تقدم تقنيات استخراج الغاز الصخري بتكلفة منافسة، إذ تملك الصين أكبر احتياطي للغاز الصخري في العالم حوالي 31.6 تريليون متر مكعب.

وقد تكون قضية الغاز الطبيعي المسال أكبر و أخطر من مسألة العرض والطلب عالميا طالما أن النفط والغاز 90% سياسة، و 10 % فقط اقتصاد، وهناك توقعات تشير إلى سعي أمريكا الحثيث للهيمنة على حوالي 75% من صادرات الغاز الطبيعي المسال في العالم خلال السنوات الخمسة القادمة، وقد ذكر التقرير المشار إليه أعلاه أن مشاريع أمريكا للغاز المسال التي وصلت إلى مرحلة ماقبل القرار النهائي للاستثمار تصل طاقتها الإنتاجية إلى حوالي 336 مليون طن سنويا، مما يرشح لدينا أن

يكون الغاز الطبيعي المسال العقدة الأساسية في عملية شد الحبل بين أمريكا والصين عبر مفاوضات إنهاء الحرب التجارية بين البلدين، فماذا لو أصبحت أمريكا أكبر مصدر للغاز المسال إلى الصين، وأصبحت عائدات الغاز المسال الأمريكي هي العامل الأساسي في تخفيض العجز التجاري بين البلدين، الذي كان قد بلغ سنة 2017 حوالي 375 مليار دولار أمريكي . وفي الأخير يبقى حجم حصة بلادنا من عائدات الغاز المسال مرهون بهذه المعادلة المعقدة، التي حتى لم تتضح صورتها بعد للعالم.

يتواصل إن شاء الله

.............................

الحلقة الثانية

الحلقة الأولى 

اثنين, 11/02/2019 - 13:01