زمن المصالحة الفلسطينية الكبرى

عماد شقور

علمت من مصدر موثوق قبل يومين بخبر شد انتباهي، ونشّط املاً لم يفارقني اصلاً، وأعادني في الذاكرة الى حدث شبيه.
مختصر ما سمعته من ذلك المصدر الموثوق، أن الرئيس محمود عباس، وبعد انتهاء اجتماع لهيئة قيادية ما، في مقر الرئاسة في رام الله، قصد ضريح الزعيم الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، الملاصق لمقر الرئاسة ويبعد عنه خطوات معدودة فقط. وإذ وصل أبو مازن إلى الضريح، طلب من مساعدَين اثنين كانا معه، وكذلك من رجال الأمن والحراسة المرافقين، البقاء في الخارج، ودخل منفردا حيث يرقد جثمان أبو عمّار، وأغلق الباب خلفه، وجلس على كرسي كان احضره له احد مرافقيه، وبقي مختليا في غرفة الضريح لمدة اثنتين وعشرين دقيقة.
لا يُقدم واحد مثل الرئيس أبو مازن، في اعتقادي، على خطوة من هذا القبيل، ما لم يكن يشغل باله وذهنه سؤال كبير وخطير، يضعه في حيرة أمام ضرورة اختيار واحد من بدائل متضاربة، مشبعة بالمخاطر الآنية والمستقبلية. وفي مثل هذه الحالة، يكون قرار الإنفراد في خلوة في مكان خاص تماما، تحصيل حاصل. فماذا عن السؤال الذي دفع الرئيس الفلسطيني إلى هذه الخلوة وفي تلك الغرفة بالذات؟
فتح باب الاجتهاد يقودني الى الاعتقاد أن أبو مازن على بعد خطوات من اتخاذ قرار ما، يتعلق بموضوع اعداد الساحة الفلسطينية لمواجهة تطورات غير مسبوقة، وعلى أكثر من صعيد، وفي مستويات عديدة، تستدعي التحضير الدقيق، والتقدم بخطوات ثابتة، على طريق إعداد الشعب الفلسطيني، لمواجهة استحقاقات أحداث قضايا جسام تخص حاضر الشعب الفلسطيني ومستقبله.
أخطر هذه القضايا هي قضية ما يسميه الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، وإدارته العنصرية، وطاقمه اليهودي الصهيوني «صفقة العصر». والتي ستعلنها تلك الإدارة بعد الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية المقررة ليوم التاسع من شهر نيسان/ابريل المقبل، وقد لا يتأخر إعلانها عن نهاية شهر أيار/مايو، أي في غضون اسابيع معدودة لا تتخطى الثلاثة أشهر من يومنا.
ثاني أهم هذه القضايا، هي قضية الانتخابات البرلمانية في إسرائيل، وشكل الحكومة الإسرائيلية المقبلة. فهل سيستمر اليمين العنصري المفضوح هناك برئاسة بنيامين نتنياهو، (أو ربما خليفته) في قيادة ورسم سياسة إسرائيل، وانعكاساتها على شعبنا الفلسطيني وأمتنا العربية، أم سترث ذلك الموقع قوة إسرائيلية أكثر أو أقل خُبثاً أو طيبة. ذلك هو السؤال. فما هو الرد الفلسطيني الأمثل؟.
ثالث هذه القضايا الوضع العربي المخزي والمرفوض والحزين، لكنه الوضع الذي لا يجوز لنا ولا يصحّ أن نتخلى عن الاهتمام به، حتى لو كانت البدائل أكثر إغراءً. ولو استدعى الأمر إقدام الرئيس ابو مازن، وفورا، بجولة عربية تبدأ من المغرب، وتنتهي بعُمان، لإعادة شرح وتوضيح الموقف الفلسطيني والاستماع لآراء ونصائح الأشقاء، حتى وإن كان بينهم أشقاء/أعداء.
رابع هذه القضايا، وأهمها وأخطرها، على الاطلاق، هو الوضع الوطني الفلسطيني الداخلي المهترئ.
لا بد من التوسّع في هذا الموضوع:

أخطر هذه القضايا هي قضية ما يسميه الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، وإدارته العنصرية، وطاقمه اليهودي الصهيوني «صفقة العصر». والتي ستعلنها تلك الإدارة بعد الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية المقررة ليوم التاسع من شهر نيسان/ابريل المقبل

من يحارب ويقاوم الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي لا يبحث عن أعداء جدد.. لا في العالم الواسع.. ولا في العالم العربي.. ولا في فلسطين، مهما كان أمر هذا البحث مغريا ومريحا. لا ينقصنا، كفلسطينيين، البحث عن شمّاعات فلسطينية أو شمّاعات عربية أو حتى شمّاعات دولية أجنبية نعلق عليها أسباب خيبتنا. ما ينقصنا هو التركيز على العدو الذي يحتل ويستعمر ويعذّب شعبنا، في كل فلسطين وفي مخيمات اللجوء والشتات والمنافي.
من يرى في الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي عدوا، لا يرى في حركة المقاومة الإسلامية «حماس»، (رغم غياب كلمة الوطن «فلسطين» عن اسمها)، ولا في حركة «الجهاد الاسلامي»، (رغم غياب كلمة الوطن «فلسطين» عن اسمها)، عدواً يجب نبذه ورفض التعامل معه بما يستحق من تعاون وتفاهم وتقديم النصيحة.. «بالتي هي أحسن».
من يقاوم ويرفض مبادئ ومنطلقات وأفعال حماس والجهاد الاسلامي، لا ينبذ، ولا يعطي العداء والرفض لـ«الجبهة الشعبية» أي درجة متقدمة في سُلّم أولوياته.
من يبتعد بمبادرة منه، أو بتجاوب ورضى مع حماقات قد تكون الجبهة الشعبية قد ارتكبتها، أو لم ترتكبها أصلا، لا ينبذ ويتسبب في ابعاد «الجبهة الديمقراطية» وياسر عبد ربه وغيره من الدائرة الضيقة لصنع القرار الوطني الفلسطيني.
أما عن «فتح»، ومن شُق وأُبعد عنها، الأخ محمد دحلان، فحدِّث ولا حرج.
أقول لأخي الرئيس ابو مازن: اعقلها.. وتوكّل.
أذكر في أحد اكثر الأيام قسوة وعنفاً أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان وحصار العاصمة بيروت، أنني وصلت مقر «العمليات 5»، (وهي مقر في الطابق الخامس تحت الأرض، في بناية عالية في بيروت الغربية، لم يكن بعد استكمل بناؤها، فحولتها المقاومة، بأمر من أبو عمار الى غرفة عمليات)، بحدود الساعة التاسعة صباحا. لاحظت منذ دخلت وجوما غير مسبوق على وجوه مرافقي ورجال حراسة أبو عمار، ووجوه بعض من قادة الأجهزة، ومسؤولين وقيادات فصائل فلسطينية ولبنانية. سألت عن أبو عمار، فقيل لي أنه دخل الى المكتب الرئيسي في المقر، ثم أغلقه وأمر حرّاسه أن لا يفتحوا الباب ولا يسمحوا لأحد بالدخول، وأنه أطفأ النور بعد ربع ساعة من دخوله. سألت فتحي، كبير المرافقين، إن كان سلاح ابو عمار الشخصي معه، فقال لي فتحي، رحمه الله، «بتسأل؟ كأنك لا تعرف ابو عمار، هو لا يتخلى عن سلاحه ابداً».
تركتهم واجمين. وتقدمت نحو باب المكتب الرئيسي حيث أبو عمار، وفتحت الباب فدخل بعض النور، أغلقته وأشعلت الضوء في المكتب، وتقدمت باتجاهه.. لم أنطق ولو بحرف، وجلست إلى جواره، مركزا، بشكل ملفت، نظري على وجهه العابس. بعد دقائق، كأنها ساعات، رفع نظره إليّ وقال: أهلاً… قلت لهم أن لا يسمحوا لأحد بالدخول.. لكنك وصلت في وقت ملائم. كانت نسخة من المصحف إلى يمينه. قال لي: لقد «استخرت» الله في ما انا فاعل. واول ما لقيته كان: «فبشّر».. وقد استبشرت خيراً. سنقاوم وسنتصدى مهما كان الثمن والتضحيات. لن نستسلم ولن نرفع الراية البيضاء.. حتى ولو لم يبق معي أحد.. حتى ولو تخلّى فتحي عنّي.. حتى ولا أنت ولا إخواني في اللجنة المركزية والقيادة المركزية»… هكذا كان في ذلك اليوم وذلك الظرف الصعب.
أعرف مسبقا كم من الناس سينتقدون ما قلت وكتبت وما أقول وما أكتب. بين أبو عمار وأبو مازن فوارق واختلافات لها بداية ولا يعلم نهايتها أحد. غير أن بينهما توافقا في خط النهاية: وضع فلسطين، ووضع شعب فلسطين على طريق الحرية والاستقلال والتحرر، آخذين بعين الاعتبار كل الظروف الذاتية، والمنافسة الوطنية، والعربية، والمحيطة، والمناصرة والمعادية.
لا بد من تسجيل ملاحظة بعد كل هذا:
لست واحدا من المطبّلين لأخطاء وخطايا أبو مازن، وهي كثيرة على أية حال. لكن للشرعية الفلسطينية، ولمنظمة التحرير الفلسطينية تحديدا، مكانة لا يجوز التفريط بها. التفريط بها خسارة فادحة، تَلزَمنا عقود وعقود من السنين، ومئات وآلاف من الضحايا لاسترجاعها.. فرفقا بهذا الشعب.

القد س العربي

خميس, 28/02/2019 - 10:46