موريتانيا إلى أين؟ (الحلقة الثانية عشرة)

كتاب: "موريتانيا إلى أين؟" للباحث د.بدي أبنو، يُنشر في حلقات أيام الإثنين والخميس.
 
السيــــــــاسة المؤجَّـــــــــــلة
 

   كان سؤال الاستراتيجية طبعاً هو السؤالَ المركزي الذي واجهَ المعارضة الحزبية منذ بداية التسعينيات، أي منذ تشكّلها مع الإعلان عن المسلسل السياسي الذي قررتْ مكوناتُها توظيفَ هامش حريته المفترضة.

تمثّلتْ المشكلة منذ البداية في البدائل والخيارات التي تستطيع المعارضة الحزبية اللجوء إليها حين لا يَـحترم النظامُ القواعدَ التي صاغها. وقد أظهرتْ مقاطعة الانتخابات التشريعية لسنة 92 الدرجة التي بلغها، منذ بدايات المسلسل الاقتراعي، الجدلُ حول هذه النقطة.

 غير أنّ السياق الدولي التسعيني الذي ميّزه انتشارُ الدعوات الحقوقية (وهي الظاهرة التي طبعتْ عالميا الفترة الفاصلة بين نهاية الحرب الباردة وهجمات الحادي عشر من سبتمبر) قد سمحَ بربط التعبئة الداخلية بالإدانة الحقوقية لجرائم نظام ولد الطائع، على الصعيد الخارجي. وهو ما تزامن مطلعَ التسعينات مع بداية اكتشاف حجم جرائم القتل والتصفيات الجماعية التي جرتْ بالخصوص سنتي 90 و91.

وإذا كانت قدرة نظام العقيد ولد الطائع، بل وكلّ الأنظمة العسكرية المتعاقبة، على ابتكار إجابات على أوضاع لم يتوقعها ضعيفة فإنه لَعِبَ ورقةَ "المبادرة" وأبقى المعارضة الحزبية في مجمل الأحيان في مستوى ردّات الفعل.

ولما كانتْ مبادرات النظام تُختصَر في دفق من حالات الاعتقال والتعذيب والمصادرة وحلّ الأحزاب، أي في حالات حقوقية، فإنّ مكونات المعارضة الحزبية وحتّى غير الحزبية وجدتْ نفسها تدريجيا تَـحصر نشاطها على الأرضية الحقوقية داخليا وخارجيا.

وزادَ ذلك تكريساً شعورٌ مبرَرٌ بأنّ الانقسامات التي عرفتْها تشكيلات المعارضة الحزبية الناشئة ناتجة في جزء منها عن إثارة القضايا السياسية التي هي بطبيعتها خلافية، وبأن المساحة الحوارية الموجودة في ظل نظام قسري لا يمكن أنْ تكفلَ توفر الهوامش اللازمة لفتح الملفات السياسية إيجابيا. بل إن إثارة قضايا مركزية، كالتعايش والمشكلة التربوية ومشكلة التابعية الشرائحية ومشكلة العدالة الاجتماعية، ستُستَغلّ حتما لضرب بعض المعارضة الحزبية ببعض.

ولم يكن ذلك الشعور - في مستوياته المصرّح بها والمسكوت عنها معاً - بعيداً عن الواقع، ولكن الامتناع المتفاقم حينها عن طرْح هذه القضايا الرئيسة طرحاً سياسيا، حوَّل شيئا فشيئا العمل السياسي ممّا به يكون كذلك إلى عمل حقوقي.

فبقدر ما ازدادتْ الانتهاكات وتقلّص الهامش الديمقراطي وقلَّتْ البدائل المتوفرة، بقدر ما وجدتْ الحركات السياسية في العمل الحقوقي ملجأ وفضاء مشتركا نادرا.

النظرة الحقوقية رغم أهمّيتها ونجاعتها سياقياً فإنها لا يمكن طبعاً أن تحلَّ محلَّ طرح القضايا السياسية التي لا تمثلُ المشكلات الحقوقية غالباً إلا بعض انعكاساتها؛ ولم يكن خصوصا بإمكان النظرة الحقوقية أن تغنِي عن إيجاد رؤية سياسية وخطّة استراتيجية للتعامل مع النظام الحاكم فيما يتجاوز الإدانة وردود الأفعال المرتبطة بالانتهاكات المزمنة.

ومع ذلك فإنّه يُـحسب للركونَ إلى الخطاب الحقوقي أنه قد خفّفَ مستويات معينة من حالة التفرع الثنائي العرقي. كما سمح لنواة المجتمع "المدني"، رغم تواضعها واختراق أغلب فئاتها سياسياً أو أمنياً أو اجتماعياً لاسيما عبر دينامية الزبونية الزومبية، أنْ تَلعب دورا فاعلاً أحياناً، خصوصا مكوناتها التي تمتعتْ باستقلال مادي نسبي وبتقاليد تضامنية معتبرة. وهو ما يصدق مثلا بمستَوى أو آخر على عدّة روابط عمالية ومهنية وطلابية. كما أخذ منذ بداية التسعينات يَصدُقُ بنِسبٍ متفاوتة على جزء من الصحافة غير الحكومية الوليدة.

من جهة أولى لا يمكن نكران ما حقّقه هذا النشاط الحقوقي لصالح ملفات محددّة وحالات معينة كثيرة. ومن جهة ثانية ينبغي الاعترافُ، في الوقت نفسه، بأن النشاط السياسي في أغلب جوانبه، اتّكأَ على الحقوقية، وتراجع عن أغلب فضاءاته الخاصة، بما ساعد على إبعاده نسبيا عن الحركية الصامتة للمجتمع، تلك الحركية التي عرفتْ، يوما ما، التنظيماتُ السرية ماقبل الحزبية كيف تنفذ إليها جزئياً وكيف تفعّلُها بنسبة معتبرة.

ويمكن التأريخ بأحداث يناير 1995 (التي سميتْ بتمرّد أو مظاهرات الخبز) كبداية لافتة لهذا المسلسل الانفصالي. فكما أن المعارضة الحزبية لم تكنْ خلف تلك الاحتجاجات النارية فإنها أيضا لم تنجح في تبنّيها ولا في تأطيرها واستثمارها.

وتقفُ، تبعا لذلك، خلفَ هذا المسلسل مفارقة رئيسة: فالمعارضة كانت وظلّتْ حينها مضطرة ألّا تقبل، علناً، إلا بالأساليب التي يشرِّعها لها ويلزمها بها نظامٌ غير معني كثيراً بإلزام نفسه بما يشرِّع. ولم يكنْ لمفارقة المعارضة الملزمَة بقانون تصوغه سلطةٌ لا تؤمن به إلا أن تنجبَ مناخا تظلُّ فيه المعارضة أسيرة ردة الفعل.

ولمّا كانت مبادراتُ النظام موسومةً أساسا بهذه القسرية العضوية، فقد غلب الطابع الحقوقي للمعارضة على الطابع السياسي، ودفع الأفق السياسي إلى الانسداد. أو بمعنى أدقّ ألغى قدرة المعارضة الحزبية على اتخاذ أي مبادرة سياسية خارج الدور المرسوم لها فوقيا، ممّا مهَّدَ للصعود الفجائي لفاعلين من خارج الأطر القائمة، أي ممّا مهّدَ لأحداث الثامن يونيو وتداعياتها.

خميس, 02/05/2019 - 14:01