الجزائر: الرأي + شجاعة الشجعان

محيي الدين عميمور

ينتظر كثيرون ما يمكن أن تشهده الجمعة الرابعة عشرة للحراك الشعبي الجزائري من ردود فعل الشارع على ما عرفه الأسبوع الماضي من أحداث، ومع ملاحظة أن كثيرا مما سنسمعه أو نقرؤه لا يمثل الشارع الجزائري عبر الولايات الـ48 بصدق وموضوعية، فقد بدا واضحا أن الحراك أصبح يتركز في مناطق معينة، وخصوصا في العاصمة الجزائرية، بعد أن أحست شرائح كثيرة بأن السلطة تستجيب تدريجيا لمطالب الجماهير وطبقا لأسبقيات لا تعرقل سير الدولة أو تؤثر على استقرارها، وبالتالي لم يعُدْ الحماس للتجمهر كما كان.

وفي الوقت نفسه تأكد بان هناك اختراقا كبير للتظاهرات من عناصر تم تحييدها في مرحلة سابقة، كما أن هناك تجنيدا متزايدا لشباب بعض كليات الجامعة، وخصوصا غير المُعرّبة، تقوم به عناصر ذات إيديولوجية محددة وتوجهات عنصرية مشبوهة لانتزاع ما تقدر على انتزاعه من مواقع المسؤولية، بنفس أسلوب الابتزاز الذي عُرف عنها في بداية التسعينيات.

والهدفَ الأول لهجومات هؤلاء جميعا هو رئيسُ أركان القوات المسلحة، الذي أثار الغضب العارم في حديث الأسبوع الماضي عندما أكد مرة أخرى بأن الجيش سيحترم نصوص الدستور، ولن يقع في نفس الفخ الذي سقط فيه الجيش في 1992، عندما خرجت القيادة آنذاك عن إطار الدستور وأعطت السلطة السياسية لعناصر طفيلية وحزيبات لا تمثل القوى السياسية الكبرى في البلاد، وهكذا فإن نفس العناصر التي احتضنتها المؤسسة العسكرية في التسعينيات، والتي بحّ صوتها من مطالبة الجيش بالتدخل في نهاية هذه العشرية، هي نفسها التي تجند الشباب المتحمس اليوم للهتاف : مللنا من حكم العسْكر.

وبالطبع، سيتم التركيز بشراسة على اتهام السلطة بأنها تحارب حرية التعبير، وهاهي، بعد أن منعت نقل (نقلَ وليس تنقّل) متظاهرين من ولايات أخرى إلى العاصمة لملء الساحات بالمتظاهرين الذين يحملون شعارات معينة، هاهي تغلق دَرَج مبني البريد المركزي لمنع الحراك من التعبير عن إرادة الشعب، هكذا.

وواقع الأمر بالنسبة لهذه النقطة بالذات هو أن البلاد تعاني من التصحير الإعلامي الذي مارسته سلطات المرحلة الماضية، والتي عرفت تفتيت الساحة الإعلامية بنحو 150 صحيفة باللغتين، وما أدى إليه ذلك من تشرذم الرأي العام الذي لا يعرف منبرا إعلاميا مثل لو موند في فرنسا والأهرام في مصر وواشنطون بوست في الولايات المتحدة الأمريكية والنهار في بيروت.

وإلى جانب غياب صوت إعلامي مؤثر، مثل عيسى مسعودي في الستينيات، تعاني البلاد من فشل الدولة في تحمل مسؤوليتها الإعلامية تجاه المتظاهرين في الحراك، والذين تخضع شرائح منهم لعملية غسيل مخ لا بد أن تنجح لأن الطبيعة لا تحتمل الفراغ الناتج عن أن الدولة ومسؤولي الإعلام فيها لا يتوجهون للمواطنين بشكل دوريّ منتظم لتقديم ما يوضح الأمور ويكشف مزايدات البعض ويفضح اختلاقات البعض الآخر.

وباستثناء الخطب الدورية للفريق قايد صالح والموجهة رسميا للنواحي العسكرية التي يقوم بزيارتها لم يحدث أن توجه مسؤول أو نصف مسؤول للجماهير ليضعها في صورة الأحداث، وحتى العديد من المناظرات المتلفزة في معظم القنوات أصبحت تصيب الناس بالملل، فهي إما اسطوانات مكررة أو خطابيات ساذجة.

 وابتذلت أوصاف المحلل السياسي والخبير الإعلامي والباحث الأكاديمي والناشط السياسي والتي فاض بها كيْل قنوات فضائية مضطرة إلى ملء الفراغ الذي يبرر الإعلانات التجارية، وهي مصدر تمويل أساسي للتلفزة.

ومن هنا فإن من حق المواطن أن يشكك في كل ما تقدمه وسائل الإعلام المفتتة، وآخرها صور الرخام المُحطم في مدخل البريد المركزي، والذي لم تقع الاتجاهات المناوئة في فضيحة اتهام سلطات الولاية بأنها هي من حطمت الدرج لتمنع المتظاهرين من استعمالها كمنابر للخطابة.

غير أن العنصر الثاني الذي تُنتظر ردود الفعل حوله هو الرسالة الثانية التي أصدرها الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، وزير التربية الوطنية ثم الإعلام في عهد الرئيس هواري بو مدين ووزير الخارجية في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد، وهي الرسالة التي كانت حجرا ألقي في بركة الساحة السياسية، وخلقت وضعية اختلطت فيها أوراق الكثيرين واختلطت فيها الأمور على آخرين.

كان البيان الأول الذي صدر باسم الثلاثي أحمد طالب وعلي يحيى عبد النور ورشيد بن يلس خيبة أمل كبرى كنت تناولت أهم معطياتها في الحديث الماضي، وكان العنصر الأكثر بروزا في ذلك البيان هو سيطرة منطق التوافق الذي كاد يكون نوعا من التلفيق.

ومن هنا أتصور أن أحمد طالب، الذي درس بخلفيته الديبلوماسية ردود الأفعال، فضل أن ينفرد بنفسه لإرسال رسالته، والتي وجدنا فيها شخصيته كما كنا نتصورها أو نريد تصورها، وبرغم الحرص على عنصر التوافق فقد تكامل في الرسالة التعبير عن الخط الوطني والتجاوب مع مطالب الحراك الشعبي الرئيسية والتزام الصياغة الذكية في تمرير برقيات شفرية بالغة الأهمية، لا تغيب عن الأذكياء.

وكان أول ما يمكن ملاحظته هو صعوبة أن نُحدّد ما إذا كان أصل الرسالة قد كتب بالعربية أم بالفرنسية، وهي نقطة أراها بالغة الأهمية لأن كثيرين رأوا في البيان الأول استهانة باللغة الوطنية (بالألف واللام).

كانت الرسالة سلسلة من البرقيات الذكية التي لا يمنع الاختلاف مع بعض معطياتها التعبير عن الإعجاب بعبقرية الصياغة، فهي تقول بأن “الدستور من وضع البشر، أي لا يجب أن يكون متخلفا عن حركة الواقع ولا ينبغي أن يكون مُعوّقا لحركة المستقبل”، والخلفية هنا هي محاولة التأثير على من يتمسكون بحرفية النص الدستوري، وتدعو، بكل رصانة أيضا وبكل حزم، إلى “تغليب المشروعية الموضوعية على المشروعية الشكلية انطلاقا من حق الشعب في التغيير المستمر”، وهو هنا يستند إلى اعتبار الهبّة الشعبية “استفتاءً لا غبار عليه”.

ولا يمكن لأي إنسان عاقل أن يعارض هذا الطرح، حتى مع اختلافه مع المضمون.

وكانت الرسالة واضحة في إدانة لغة التخوين، برغم أن من خُوّنته الجماهير كانوا أساسا جماعة “الماك” وأنصار تفتيت الشعب.

هنا يدعو طالب بذكاءٍ شديدٍ عناصر المعارضة إلى التجاوب مع ما تطرحه المؤسسة العسكرية ولكن الدعوة تقدّم بشكل عكسي، فهو يطالب المؤسسة بأن “تصغي إلى اقتراحات النخب وعقلاء القوم”، وكأنه يقول لشخصيات المعارضة: إن كنتم ترون أنفسكم من عقلاء القوم فعليكم بالتفتح للحوار.

والرسالة هنا تقدم المؤسسة العسكرية كطرف مباشر في الحوار، وتلغي بذلك دور رئاسة الدولة، وهو ما يوضحه الدكتور طالب بقوله إن هناك انسدادا سياسيا ناتجا عن تعنت “السلطة” وتمسك “الحراك الشعبي” بمطالبه، لكنني كنت أفضل تفادي كلمة “تعَنت” واستعمال كلمة “تمَسّك” بالنسبة للجانبين، وأجد نفسي بالتالي في موقع التحفظ أمام قوله  للمؤسسة العسكرية بأنها “لا تجب أن تكون سندا لمؤسسات لا تحظى بالرضا الشعبي حتى وإن كانت في وضع دستوري ثابت كان مبرمجا لحالات عادية وليست استثنائية كالتي نمر بها اليوم”، فهذا يتناقض مع منطق الدولة كما أراه، لكنني أضع الأمر في موضع محاولة تحقيق التوافق بين إرادة المؤسسة العسكرية والمطالب التي تُنسبُ للشارع، حتى ولو لم تكن تعبر فعلا عن إرادة جماهيرية جماعية، وكان وراءها بعض التوجهات التي تحاول تحقيق أجندة خاصة، انتقاما أو طموحا.

وليس كل ما يقدم في تصريحات التلفزة هو تجسيد لرأي الشعب أو تعبيرا عنه.

غير أن أهم ما تختلف فيه رسالة طالب عن البيان الثلاثي هو استعماله لتعبير “العهد الباديسي النوفمبري” قي إدانة واضحة وصريحة لفكرة الجمهورية الثانية، وما تعبر عنه في واقع الأمر من إنكارٍ لكل ما أنجزته الجزائر بعد استرجاع الاستقلال، وهو ظلم للآلاف من الإطارات في مختلف المستويات ممن لم يدخروا جهدا في بناء البلاد، وبرغم الكثير من الأخطاء والعثرات، وهذه نفسها كانت تجاربُ لها قيمتها في تعديل المسار وتصحيح المسيرة.

ولعل اختتام الرسالة بالدعوة لنصرة فلسطين هو تعبير مزدوج رأيته بالغ الذكاء، فهو من جهة يذكر بالرئيس الراحل هواري بو مدين وعبارته المشهورة عن نصرة فلسطين، ظالمة أو مظلومة، وهو من جهة أخرى يرد على بعض العناصر المتبربرة التي نددت برفع علم فلسطين في التظاهرات الشعبية، والذي يندرج في نفس المنطق السابق.

والدكتور طالب تعمد أن يوجه رسالته لشباب الحراك، لأنه، على ما أتصور، أراد أن يقول لهم أنهم هم الطرف الرئيسي في المعادلة، وبأن ما يقوله ليس مجرد مبادرة، بل إعطاء الحق لأهله، وهو في هذا يتقرب منهم وينتظر بالتالي أن يتم تبادل هذا التقرب.

ومعنى هذا أن على الحراك أن يُحسن التقاط الرسالة، التي بدأت بالبسملة، وخُتمت بتحية الإسلام، وهو ما دفع “الرويبضة” الفرانكولائكية إلى شن حملاتٍ تهجمت على الدكتور طالب، وصلت إلى اتهامه بأنه “بعثي”، في جهل تام بمعنى هذه الكلمة وبدلالاتها.

ولعل هذه التهجمات في حدّ ذاتها، مضمونا ومصدرا، هي أقوى دعوة للالتفاف حول هذا التحرك الخلاق للدكتور طالب، الذي أريد أن أتصور أنه وجّه ضمنيا دعوة للشخصيات السياسية لكي تحوّل رسالته إلى مبادرة سياسية خلاقة تمكن السياسيين، أو من يرون أنهم كذلك، من انتزاع مكان مؤثر على الساحة السياسية، بدلا من الدوران حول نفس البلاغيات التي أفقدت الطبقة السياسية فعاليتها، والتي جعلت الحراك الشعبي يطرد معظم قياداتها من التظاهرات.

ولست أعني بهذا دعوة لمبايعة الوزير الأسبق، لكنني أقول بكل تواضع إن إطلاق مبادرات جديدة، مهما حسُنت النوايا، هو أمر يستحسن تفاديه الآن، لأن مشكلة المعارضة كانت فشلها في تحقيق التوافق حول شخصية معينة تنتزع أوسع حجم من التعاطف الجماهيري ومن تفهم مؤسسات الدولة، ورسالة أحمد طالب تعطي فكرة عن واحدة من الاحتمالات المطروحة أمام الطبقة السياسية.

ولعل هذا ما يمكن اعتباره استجابة لدعوة رئيس أركان القوات المسلحة لتفاعل النخب إيجابيا مع تطورات الأوضاع.

تبقى الآن قضية المفاضلة بين الحل الدستوري والحل السياسي، وفي تصوري فمن الأفضل أن نقول: القراءة السياسية للحل الدستوري، وهي هنا تتعلق بمادة واحدة هي المادة (93) التي تنص على أن “رئيس الجمهورية” هو الذي يُعين الحكومة، وإذا افترضنا أن الحكومة استقالت جميعا في عهد رئيس الدولة فلا يمكن أن تترك البلاد بدون حكومة، وبالتالي يمكن للمجلس الدستوري أن يتدخل ليعطي لرئيس الدولة حق تشكيل الحكومة.

وهنا يمكن اختيار حكومة توافقية في إطار الدستور، حيث أن الحل الآخر هو الإعلان الدستوري، ونحن نعرف ما حدث في مصر نتيجة للإعلانات الدستورية.

رأي اليوم

سبت, 25/05/2019 - 12:20