مفهوم "الظروف الإستثنائية"

محمد افو

تسألني والدتي ما إذا كانت لدي قداحة " بريكة " فأدخل يدي في جيبي وأعطيها إياها ، فتقول " الله يغنيك عنها " .
تعرف والدتي أنني أدخن ، ومع ذلك فهي تحتاج أحيانا إلى قداحتي ، وتستفيد من وجودها غير المرغوب في الأصل .

تعمل والدتي تقنيا وفق مفهوم التعامل مع الظروف السيئة ، وذلك باستغلال ما هو متاح لعمل جيد ضمن تلك الظروف .

بينما يعرف والدي أنني أدخن ويتجاهل ذلك ، لأنه يعتقد أن إظهار علمه بعادتي السيئة تلك سيفرض عليه دور المسيطر والمسؤول المربي ، والذي لم يعد متاحا له كما في السابق ( كبرت ) ، لذلك يفضل أن يتجاهل الحديث عن الأمر ممثلا دور الجاهل به .
يعمل والدي وفق تقنية التجاهل التي تريحه نفسيا من وطأة الدور الذي تفرضه مواجهة الواقع .

يتعامل والدي مع الظرف بقسوة وجفاء ، بينما تعمل والدتي على التحايث مع الأزمة واستغلال أدواتها لأي نفع .
وسأنطلق من تحريرنا من مبرر التجاهل كمجتمع تتلبسه نفسية "الظروف الإستثنائية ، وذلك من خلال الإنطلاق من قاعدة مفادها بأن كل ظروف هي ظروف إستثنائية .

ويتبع للقاعدة - منطقيا - بأن واجب العمل لا ينزاح لأي مبرر عن كاهل المنتظر منه .
لأن مبرر الظروف الإستثنائية - وفق القاعدة - لا يتمتع بخاصية التوقيت ( المؤقت ) وإنما يختص بخاصية الديمومة والإستمرار .

حين ينظر أحدكم في برنامج إنتخابي لمرشح إسكندنافي ، سيجد بأنه يتعامل مع ظروف ومشكلات إستثنائية ( ضمن الحيز الزمني المعاش ) ، فما بالكم بالدول الفقيرة والمشردة ضمن النطاق الحضاري .

ودعوني أوضح الصورة من خلال عكس ذات القاعدة ذاتيا ، فحقيقة أنه لا يوجد ظرف زمني خال من الظروف الإستثنائية ، فهذا يعني أن لا ظروف إستشنائية على الإطلاق .
بمعنى أن ما يوجد دائما هو ظروف طبيعية تتخللها تحديات آنية ، تعتاش على معطيات حية أو تركة ما .

يعني هذا أن مفهوم الظروف الإستثنائية هو مفهوم تبريري ، نوظفه لتلطيف الوطاة النفسية للتقاعس عن الواجب .

وهو بذلك مجرد عقدة نفسية يصح التخلص منها بكشف زيفها ، وهذا ما جعلني أعمد لهذا النمط من التفكيك ( التفكيك النفسي ) .

من زاوية أخرى ...
لن يعقل أن تظهر ظروف غير إستثنائية ( بالمفهوم الواهم ذاك ) ، لأن كل جيل هو معني بمزاولة واجبه ، وهذا يعني أن هناك نقصا دائم التجدد ضمن كل الأزمنة وبطبائع وأشكال وأسباب مختلفة .
لا فكاك إذا من التعامل مع ما نسميه نفسيا بالظروف الإستثنائية ، لأنه لا يوجد زمن تكتمل فيه غايات أمة ولا ومضة من التاريخ متشبعة بالإنجاز الكامل .

إلى هنا ونحن في الجانب الخارجي للبناء النفسي الواهم ، لذلك دعونا نلج عوالمه الداخلية ، حيث يبني أعشاشه وينسج يرقاته ويتحصن بوسائله ليبقى حيا ، بينما نموت هرما في انتظار الوعد الذي لم نوعد به ولا نعرف مهديه ولا حتى فكرنا في تحديد مسوؤلياته .

هناك ثلاث مراحل نفسية يسلكها المجتمع ويتزامن مع أطوارها دون الشعور بلحظات التحول من طور إلى آخر .

المرحلة الأولى هي مرحلة الحماس ، وتليها مرحلة المواجهة ، وبعدها مرحلة اليأس .
الحماس عامل طبيعي يتعلق بمراهقة كل جيل ، ومحاولة إستظهار نضجه وكفاءته ، وهذا الطور يشبه طور المراهقة عند الفرد ( ترون المراهق يبدي حساسية عالية تجاه وجوده الذي يصر على كماله ) ، و لهذه المرحلة مظاهر مميزة ، تغلب عليها النزعة الثورية والصوت المرتفع والمبالغة في تقدير الذات ، لكنها سرعان ما تأخذ مسارا آخر بعد أن تدخل حيز المواجهة .
فصراع الأجيال يشبه حربا مفتوحة ، بين جيش منظم يقوده جنرالات متمرسون ، وآخر لا يمتلك غير الشعارات الحماسية ضمن خارطة مشتعلة لكنها تتأطر حول أدب التحرر والمواجهة والفداء والتضحية والنضال ... الخ .

لكن جنرالات الجيل الأكبر يدركون جيدا طبيعة وعمر ذلك الحماس ، كما يدركون مآلاته .
مثال : تحدث الكثيرون عن إمتعاضهم من تصويت السعودية لصالح أمريكا في استضافة كاس العالم ، على حساب المغرب ، لكن المغرب تعرف جيدا بأنها لا تتحكم بأسعار النفط ، ولا يمكنها حماية السعودية من أي فوضى قد تعتري المنطقة , وهي بذلك تدرك جيدا وبتفهم تام بأن السعودية ستصوت ضدها .
وتدرك السعودية والمغرب معا بأن الموقف ليس موقفا ثوريا عاطفيا ، ولهذا فإن ملك المغرب قد يبيت ليلته مسامرا شقيقه السعودي وكأن شيئا لم يكن ، بينما يضج الخارج بحماس ثوري و يتحدث عن الأخلاق والعروبة والدين .

نرجع إذا لموضوعنا ...
مرحلة المواجهة هذه تحدث ضجيجا معنويا ، يدبو لوهلة كما لو كان قويا وجادا وقادما ، لكن الجنرالات يستنزفونه وهم يستحضرون خبرتهم كجيل كان في وقت ما يتلمس مراهقته ويرمي العبوات الحارقة في أروقة الشأن العام .

لا تطول مرحلة المواجهة ، وسرعان ما يتم تدجينها مع أول بودار الإحساس باليأس ( المرحلة الثالثة ) .

وفي خضم هذه البوادر ، يرى الرفيق رفيقه بعد أعوام في الشارع وبالكاد يتعرف على ملامحه ، ويتبادلان أطراف الحديث حول القضية ، والكل يحمل الكل مسؤولية التخاذل . 
لكن الحقيقة ان لكل فرد من ذلك الجيل نصيب أصابه شخصيا من اليأس والشك في من حوله .

يسهل في هذه المرحلة إطلاق رصاص الرحمة ( توظيف عدد قليل من القادة ، وتوزيع كمية معتبرة من الشائعات تسلك طريقها بين رفاق الدرب ، وتسمع لغة التخوين و بيع المبادئ ... الخ ) .
الإستخبارات تعمل بطرق تقليدية عندما تواجه عملا تقليديا .

مرحلة اليأس إذا هي مرحلة الأبوة والإنخراط في مواجهة المهام الملحة ( ينحدر الإهتمام إلى الأولويات ) .

كل هذا السيناريو بمراحله الثلاث ، لا يكتفي بما فعل من تذويب وصهر جذوة التحدي ، وإنما يترك حالة ثقافية مفادها بأن النضال مشروع فاشل ، وان المناضل مجرد " عياط " مثالي لا يفهم الواقع ولا يحسن التعامل معه .
وإلى حد كبير تساعد الظروف التاريخية والقصص المروية في تجذير هذه الحالة ، والشهادة لصالحها .

وهناك صدفة ( بفتح الصاد ) عامة تظل هذه العملية التي تصبح من التاريح – كأحداث - ، لكنها تعيش في الواقع بظلها النفسي ، كما لوكانت سلاحا جرثوميا يمتلك جنرالات الجيل السابق شيفرة إطلاقه .

هذه الصدفة التي يتحصن بها تاريخ وظلال تلك الأزمة ، هي هالة الظروف الإستثنائية .
فالظروف الإستثنائية هي عبارة عن سلاح جرثومي وظيفته الفتك بالمتحمسين وتحسيسهم بأنهم دون فهم ما يحدث ، وهذا السلاح هو رسالة تستنسخ ضمن برمجة عامة يصدر بموجبها مضاد للطاقة ، يجعل من تفكيرنا المثالي مشروعا مؤجلا لضرورات المرحلة .
وهذا الإتفاق هو الإتفاق الوحيد الذي يبرم بين جيلين دون وعي ولا إدراك بخطورته .
فالجيل الأكبر يخضع الجيل الجديد لإتفاق مفاده " نحن لدينا ظروف إستثنائية تقتتضي تاجيل أحلامكم " 
وبهذا يمنح زمام الحلم طوعا لظروف الأزمة .

ويتخلى الجيل تلو الآخر عن مسؤوليته بتنازله عن الإحساس بتلك المسؤولية ، لكونه يكتفى بتفهم مسؤولية الجيل الأكبر عن الأزمة , والتي هي في الأساس من صنعه .

.............
ماذا علينا أن نفعل كجيل ؟

سأجيب عن هذا السؤال كفرد منكم ، تعتلج نفسه بقناعة راسخة بأن الأجيال تحتاج لأن تتهم نفسها كي تدرك ما هي عليه ، بدل إنفاق العمر في جلد الجنرالات .

ما نحتاجه هو التحلي ببعض الوعي بضرورة تجاوز الأزمنة النفسية ( الأزمنة وليست الأزمة ) .
لأن الأزمنة النفسية عبارة عن أعمار نعيشنا ، وتحتل أعمارنا و تبقينا خارج المضمار ، وهي تجعلنا نرى قوتنا دون أن نعلم متى تم ترويضنا ولا كيف .

البعير يعتقد بأن الخزامة قادرة على جره ، لأنه لم يدرك أن ألمه وقت وضعها كان ألما مؤقتا و ليس لازمة ( كل عمر الجمل التالي ، هو عمر نفسي ) 
نحن أيضا لدينا أعمارنا النفسية والتي ليست أعمارا حقيقة .

سأتحدث لاحقا - وبشكل مفصل - عن الزمن النفسي ، ضمن شاهد سياسي ( متى ما أتيح لي ذلك ) .

الخلاصة : 
كل الظروف الإستثنائية ، هي أعمار نفسية وظيفتها الإيهام وتأجيل الجذوة وتشتيت الطاقة .
عزيزي القارئ ، لا تكن عاقلا لدرجة تمكنك من تأجيل حلمك ، إستجابة لأي ظرف إستثنائي ، وإلا سيستحيل عمرك إلى ومضة باهتة تشعر بالندم عليها كاملة وأنت تموت مثل البعير ، وليس في جسدك أثر لرمح ولا في قلبك ما يبل حلق عمرك المهدور من الرضى عن فعل فعلته أو سيرة إسترتها في خدمة الناس .

جمعة, 12/07/2019 - 12:59