مأزق الحراك في الجزائر والبحث عن مخرج آمن

 لبنى شطاب

إن المرور بالمراحل الانتقالية شرط ضروري في عمليات التحول الديمقراطي، ويتم التوافق خلالها بين مختلف القوى على خارطة طريق تؤدي إلى هذا المبتغى.

  تنوعت التجارب العالمية والعربية في تسيير هذه المراحل، ولا توجد وصفة مثالية أو خطة سحرية تحكمها، فخصوصية كل دولة و مجتمع تبقى الأساس الذي تبنى عليه خطة التغيير، ولكن المؤكد أن قدرا معقولا من الشراكة والتوافق  في المراحل الانتقالية ضروري لخلق الشعور بالمسؤولية الجماعية، لأن إقصاء أي طرف سيجعله يتنصل من هذه المهمة والمسؤولية، بل قد يصبح طرفا معرقلا يسعى إلى إفشال هذا المسار.

 في الجزائر سيطرت الصراعات والحسابات الضيقة والتخندق بأشكاله المختلفة أكثر مما يجب قبل الاتفاق على القواعد الديمقراطية، و باعتقادنا  أن ذلك أضر كثيرا بالحراك منذ مراحله الأولى .

إن عقدة الخلاف في الجزائر والتي اتضحت بعد أسابيع قليلة من الحراك كانت بالأساس حول طبيعة المرحلة الانتقالية وماهيتها وأهدافها ومن سيقودها وما المطلوب خلالها. فهناك فريق يريد مجلساً تأسيسياً يعيد صياغة  كل أسس الجمهورية من دستور وقوانين ومؤسسات وغيرها، وفي مقابله فريق يسعى لانتخابات رئاسية حرة و نزيهة مبنية على أسمى شروط وضمانات الشفافية وتحقق الإرادة الشعبية، وهو ما تطرحه المؤسسة العسكرية إعمالاً للدستور وترفض سواه، ويبدو أنه المسعى الأقرب للتحقق.

هناك صور عديدة عن هذه الخلافات الحادة، و سأذكر بعضاً منها على سبيل المثال لا الحصر، فمثلا هناك خلافات مستمرة بين من يرى الأزمة سياسية و بالتالي سيكون حلها سياسياً و من يرى الحل دستورياً ويتم عبر الصناديق،

وخلافات بين من يقبل الحوار مع الرئيس المؤقت “عبد القادر بن صالح” و بين من يدعو إلى مقاطعته و كل ما له صلة بنظام بوتفليقة، خلافات بين من يريد استكمال التغيير من خلال حراك الشارع و من يريد استكماله في المؤسسات، خلافات بين من يريد محاسبة الفاسدين فوراً و بين من لا يراها أولوية في هذه المرحلة، خلافات بين من يأخذ على المؤسسة العسكرية تخطيها لحدودها وتدخلها في السياسة وبين من يراها ملتزمة بمهامها المحددة دستورياً  وبين من يدعوها أصلا للتدخل بشكل مباشر و فتح حوار مع الطبقة السياسية، خلافات بين من قد يقبل على مضض بقاء السيد بن صالح رئيساً للدولة و يدعو لرحيل حكومة بدوي و من يدعو إلى رحيل الكل دون استثناء و في كل مؤسسات الدولة بما يشبه عملية الإجتثاث، خلافات بين من يدافع على رفع راية وحيدة أثناء المظاهرات وهي العلم الجزائري لأن القضية وطنية و لا تخص فئة من الشعب، وبين من يرفع رايات أخرى يراها تعبيراً عن ثقافة شمال افريقيا.

إن حالة التشويش التي يمر بها الحراك جعلته لا يزال يبحث عن مسار مفقود يكون بمثابة النور الذي ينبعث من نفق مظلم لا أحد يعلم نهايته ولأي مصير سينتهي، وباعتقادنا أن حالة التخبط هذه مردها مجموعة من الأسباب سأكتفي بذكر اثنين متلازمين:

ـ أولاً: لا نبالغ إذا قلنا إن قوة الحراك تكمن في تماسكه، لما أظهره الجزائريون من وعي جماعي استثنائي لاقى إشادة عالمية، لكننا لا نبالغ أيضاً إذا قلنا إن هذه القوة بدأت تخفت و بدأ الحراك يتراجع عندما تشتت الوعي  الجماعي بين مبادرات متنافسة لم تنجح في إطلاق مبادرة وطنية جامعة رغم تقارب مضامين الكثير منها. وحتى عندما عقد منتدى الحوار الوطني بعين بنيان و كان التعويل على مخرجاته كبيراً، انقسمت القوى المشاركة فيه في اليوم التالي مباشرة.

 من جهة أخرى طغت على الوعي الجماعي الثقافات الفرعية الضيقة، وغلب عليه التعصب للانتماءات الأولية بدل الوطنية، وغابت عنه ثقافة التشارك، مما هوى بنا إلى جملة من القيم السلبية كالشك و التخوين، فأبعدتنا عن الممارسة الديمقراطية المأمولة دون أن ندرك أن ذلك هو سبب تخبط  الحراك واستمرار الأزمة.

ـ ثانيا: ترافق التشويش الذي ميز الوعي الجماعي مع  بروز قيادات و سياسيين ساهموا بشكل كبير  في حالة الاستقطاب الحاد التي يعاني منها الحراك .

لا يعني ذلك أن للحراك قيادة، و لكن البعض حاول تمثيله ( و دائما ما ينفون ذلك و لكنهم يتصرفون عملياً على هذا الأساس)، و سرعان ما تبين أن الكثير منهم لم يقنع الجزائريين، لأنهم افتقدوا للقدرة على قيادة أمة، و مثلوا بعضاً من أبناء الوطن، مما حولهم الى عامل للفرقة و التباعد.

باعتقادنا أن كل ما ظهر من آفات فكرية وسياسية و مجتمعية كالمناطقية و الجهوية ومسألة الهوية واللغة ومرض القطاعات جميعها و الفساد المذهل وغيرها، والتي طفت على السطح  بوضوح هو أمر طبيعي يمثل انفجاراً لما كان مكبوتاً وجرى تزيينه حتى لا يضر بصورة النظام السابق، إلى أن سقط وسقطت معه كل الأقنعة واتضحت حقيقة أمراضنا. ولكن الأمر إيجابي وصحي رغم ظهور ما يسوؤنا، وستكون مهمتنا أصعب مما نتخيل وعلينا معالجة أمراضنا قبل تفشيها عبر التوافق المعقول .

نحن من الذين لديهم قناعة أن المرحلة الانتقالية التأسيسية ضرورية، ولكن واقع الحال في الجزائر يسقط هذه الضرورة حالياً ولا يلغيها، و ذلك عندما أصبح الانقسام شديداً والتوافق بعيداً و الرئيس مؤقت والحكومة مرفوضة شعبياً و الحراك لا ممثل له ويرفض أن تمثله معظم الأحزاب و الشخصيات النشطة على الساحة، وعليه فإن المخاطرة بمجلس تأسيسي قد يفاقم الانقسام ويعقد الأزمة السياسية و يطيل عمرها، في ظل أزمة اقتصادية متصاعدة سيدفع ثمنها المواطن الجزائري قريباً لا محالة، و لتجاوز ذلك نعتقد أنه يمكن تأجيل كل الإجراءات التأسيسية إلى حين انتخاب رئيس جديد يحظى بشرعية شعبية ودستورية يشرف بمقتضاها على عملية التغيير مع إشراك الجميع دون إقصاء أو تهميش.

إن حل أزمة الشرعية الحالية ضرورة ملحة، وتسليم السلطة لشخصيات وطنية يقال أنها ستكون توافقية كما يطرحه البعض خارج الصندوق لن يحلها، لأننا سنقع في إشكالية الجهة المخولة بتعيينها، و مدى التوافق الذي ستحققه فعلا في ظل حراك منقسم وأزمة عدم الثقة.

إن إجراء انتخابات في الجزائر يكتسب أهمية خاصة في هذه المرحلة، لأنها ستساهم بدور أساسي في تعزيز عملية التحول الديمقراطي، كما أنها الإطار الذي يتم من خلاله تداول السلطة بين القوى السياسية المتنافسة، وما يجب التركيز عليه حالياً هو ضمان اتخاذ كافة تدابير النزاهة والشفافية.

رأي اليوم

ثلاثاء, 30/07/2019 - 10:48