مسيرة خلف السراب..

اثنين, 2016-04-25 07:48
سيدي عبد الله الوافي

ليس أكثر سكان موريتانيا مبالين أي فريق سيحكم،ولا عارفين بمقتضيات العقد الذي يجمع الدولة بالمواطن،هم سائرون فقط في ركاب السلطة،المغلوب من الفرقاء لا صاحب له،والغالب يحوز من الحظوة في النفوس ما إن المسامع لتصتك منه حين يجري على ألسنة المادحين، القادحين في شرفهم،والقاطعين وعودا على أنفسهم منذ الأزل ألا يسير بين ظهرانينا رئيس ولا وزير أوحتى ظل من ظلاله إلا وبمنازل الصدّيقين يصير،وعلى الرؤوس يرفع،وفي شغاف المطامع يعيش،لن يطول به المقام في هذه المنزلة إن فاز غيره، بحكمِ عهد قطعه هؤلاء على أنفسهم ألا يكونوا تبعا لغير جيوبهم حيث الولاء الحق.
ليس من السهل على جاهل بالتاريخ مثلي،إدراك أول أمر القوم مع الولاء والجري وراء سرابات الأماني في رمضاء المطامع الآثمة.
إن أولئك لا يملكون أي معلومات تذكر غير مايسمعون عن ماضي العقلية المتوارثة،فقد دأبوا على تلقي أكثر الجمل تداولا في البلاد -حينما يتعلق الأمر بالمضمار السياسي- : "الدولة ماتعارض"،ليرددها بعضهم مع المرددين،وتترسخ في عقله الباطني كقاعدة ثابتة..إنها مجرد جملة خبرية من ثلاث مقاطع تفسرها عديد الأحكام الجاهزة،والعقود الاجتماعية المتوارثة، وجد هؤلاء وقبلهم آباؤهم أقواما سائرين خلف أكوام من الأوساخ السياسية خلّفها الرضوخ لإرادة جمعية،لا تريد غير السكون والهدوء المصطنعين لتغليف عواصف المشاكل العالقة بلباس الهدوء والسكينة الزائفين،و لا تجد دعاية الحكام غير هذه الكلمات الثلاث فزاعة يُحكمون بها القبضة على عقول الناس وأفئدتهم.

من سيقنع "شيخا" في أقصى الشرق الموريتاني بالتخلي عن نظرية التزلف الأعمى للحاكم أيا كان  اسمه أو "وسمه" دون مبالاة بأي آفة حملته ليجثم على الصدور ويثقل عليها بمواكبه وجيوش منافقيه كلما ألمت به مصيبة في "تحصيله"،أو أراد هو ومن معه أن يكونوا لقرون متحكمين بأرض لا يقاسمهموها أحد، يسوسونها بجهل وطمع من لا يبالي من بنيها حين يُلفى متشردا صانعا لغيره قناعا وكمامات يغطي بها جسد وطن يريد اختطافه ويطمس بها أعين العامة.
من سيدفع هذا الشيخ أو أحد تابعيه من شباب أصيب في ربيع عمره "بزهايمر" في مخه يبقيه رهين قيود التزلف والنفاق "لشيخ" ينافق ويتزلف لآخر عَلّقته المطامع في شسع نعل عسكري جاثم على قلوب البشر والحجر،لا تتحرك هامة ولا لامة،إلا وعلى أعينه يسري دبيبها فيحرك فيه مشاعر الأطماع والجشع الملتصق في ثنايا طوياته فتبعث في نفسه الأمل في التحصيل..من سيدفع هذا "الشيخ" وتابعيه إلى التفكير للحظة فقط في مراجعة سجل تبعيته العمياء،ماذا جر له من منافع والبلاد تسير القهقرى منذ أول جاثم على العباد..من سيقنعه بالتأمل للحظة في مسيرة التبعية تلك والرجل لم يعرف سوى جيبه مناطا للتأمل والتفكر..جيب ملطخة بخيانات قومه الكادحين، وبلده المستباح بصيحات النفاق والتمالئ الصادرة من لهوات بحتها صيحات النفاق..يتصدر هذه الصيحات النشاز مئات من أمثاله،ولو أصخت السمع لربما سمعت إحدى صيحاته وهو يصوغ عبارة متملقة لم يسبقه بها أحد من العالمين..
مسيرة هؤلاء المتنطعين المحابين منذ الأزل تحير الألباب،وإصرارهم على مد رقبة الذل ثم الشروع في تصدر كرنفالات قبلية تتغنى بأمجاد فرسانها أولئك وشهامتهم المعفرة بأوساخ السياسة والمغبرة من آثار تمرغ سادتها نفاقا لكلام رئيس السلطة أو طلاسمه على حد السواء..من أين اكتسبوا عقلية التملق والنفاق هذه،وكيف استطاعوا مزجها بعزة نفس وهالة كبيرة من تضخيم الأنا.
من رأى كرنفالا من كرنفالات إحدى قبائل موريتانيا،وشاهد اعتدادها بمناقبها وخصال أبنائها أصحاب المجد الكبير،يتعجب من حال هؤلاء المهمشين وإعجابهم بجميل خصالهم وارتباطهم بها،فيظن أن القوم بتمسكهم هذا بخيار القبلية والعصبية وهالات التفاخر تلك،لن يقبلوا الذل وهم هم كما وصفوا أنفسهم،غير أن حال البلد الضائع في خياره القبلي ينسيك عزة أنفس هؤلاء واعتدادهم بمناقب اقوامهم فلا شيء يوحي في موريتانيا أن هنالك من لا يزال في هذا البلد من لم تمرغ أنف عزته في رمال الظلم والضياع والهون.
لا شيء يغريك بالاقتناع بخيار السائرين خلف ركاب القبلية والقانعين بالعيش بمبادئ القرون السالفة،وتحكم رأس القوم في خياراتهم دونما تفكير ولا حتى قليل اعتبار بالماضي القريب،أين يمكن أن تجد لهم مخرجا ينسيك للحظة صور مآسيهم وهم يستقبلون وفدا،أو صور طوابيرهم تتدافع أمام عربة توزع استباقيا أعلاف قطعان البشر..قبل أن يتبجح رئيسٌ أمامهم بكرمه في إطعام الجياع والملهوفين،لهف هؤلاء وراء الاستقبالات ينسيك ألم انتظارهم لساعات في الهجير لفتاتِ ما جادت به أيدي الناهبين،ويجعلك تشمئز من مظاهر استقبال مدفوع بألم تلك الساعات أو بملئ جيوب عصبة المارقين.
إن تمسك أبناء "أعماق موريتانيا" وحتى كثير ممن لا ينتسبون لتلك المناطق ويحملون نفس روح المسير والانسياق وراء "الأطر" واختياراتهم،هو العامل الأهم في بقاء وتكرار الإهانات التي تصاحب كل زيارات وكرنفالات النخاسة السياسية دون تمعر وجوه المهانين ولا تدبرهم في سر إذلالهم الدائم.
منطلق سلسلة الإذلال هو لهثُ "الإطار" الدائم لامتصاص دماء بني بلدته التي لم يعد له بها رابط،سوى تدافعه في موسم الهجرة مع النازحين نحو خزانات البشر،الملأى بلامبالاة عمياء لا تبصر سواد أطماع ومآرب ضيوفها الثقال على الأرض التي جردوها من قبل من كل كبريائها،وأفاضوا كأس إهانتها ببيع ساكنتها برهان مقبوضة.
رهان هؤلاء قبل وبعد الجشع الذي يعبئ النفوس، ولا مبالاة ساكنة تلك المناطق بالفعل السياسي المؤثر،ورضوخهم لإرادة القرابة الجامحة،التي تقدمهم قرابين ولاء لكل من هب ودب،هو سراب الأماني الذي يصاحب كل زيارة ويملأ كل دعاية جامحة يحملها "إطار" كتب عليه أن يكون محل دوران كل فساد في أرضنا.