في انتظار أيلول...

خميس, 2016-08-11 00:16
البشير عبد الرزاق

فيروز، سيدة جميلة وراقية جدا، لديها حلم بحجم وطن وصوت بعمر "الأرز"، عفوا تقرأ بفتح الهمزة لا بضمها، فنحن لا نتحدث عن دكاكين أمل.
ذكرياتي مع أغانيها تعود إلى سنواتي الأولى في دمشق، كلما أثلجت كانت المطاعم والمقاهي والباصات وسيارات الأجرة والإذاعة والتلفزيون وباعة السندويش والدخان وأصحاب"البسطات" على قارعة الطريق...
الكل كان يضع أغنيتها الشهيرة "ثلج ثلج..."، كنت تسمعها أيضا من شرفات المنازل فتخال أنها أفلتت من بين المزهريات التي تزين تلك الشرفات، دمشق كلها كانت تغني لفيروز عندما تكتسي ذلك الرداء الأبيض.
وإلى اليوم كلما صادفت أغنية للسيدة، أحسست بأني ما زلت أحمل معي بعضا من صباحات دمشق الباردة المسكونة برائحة الفول والحمص والخبز الساخن وأني بحاجة إلى دفء آوي إليه.
فيروز غنت لأيلول سبتمبر "ورقو الأصفر شهر أيلول تحت الشبابيك..."، لكنها لم تغن أبدا لآب أغسطس، هل أغسطس هو شهر لم يرق للسيدة أم أن الشاعر جوزيف حرب هو الذي وضعنا في هذه الورطة؟
لو أن جوزيف كتب لأغسطس ولحنها فيلمون وهبة وغنتها فيروز لتغيرت أشياء كثيرة في طباع هذا الشهر ولأصبحت لنا معه ذكريات أخرى غير الانقلابات.
على ذكر الانقلابات، شخصيا كنت اعتقد أنها لا يمكن أن تحدث في شهر أغسطس، كنت أعتقد أن العسكريين أناس مثلنا، يذهبون إلى البادية، يشربون اللبن ويأكلون اللحم ويركبون الحمير ويمضون وقتهم في لعب "ظامت والسيك وأكرور"، ويقهقهون ويضربون بعضهم البعض على الأكتاف، كنت واهما جدا، لا أحد يمكن أن يتوقع متى يحدث إنقلاب.
حتى كاتبنا ومفكرنا الكبير الذي أطلقوا حوله شائعات، وقالوا إنه كلما كتب مقالا حدث انقلاب، كذب الأمر ولكي يقنع الجميع كتب سلسلة مقالات لا نهاية لها، ولم تتحرك "بعرة" واحدة من مكانها.
بالمناسبة كان يمكن أن نقول إن الانقلابات تحدث دائما في الصيف: يونيو يوليو أغسطس، وأن السبب هو أن العسكريين يفور دمهم في هذه الفترة من شدة الحر، وكنا سنجد طريقة نرش بها الثكنات بماء بارد، كما يفعل الفرنسيون مع محطاتهم النووية عندما تشتد الحرارة.
لكن ولد الطايع خلط أوراقنا بانقلاب بارد جدا في منتصف دجمبر، ما زلت أذكر ذلك المساء، عند الساعة السادسة كان الندى قد بلل أرض السبخة، وكانت رائحة القهوة بالحليب المنبعثة من مطعم جالو القريب تغريني، لولا أن 40 أوقية كانت ميزانية طائلة بالنسبة لطالب ثانوي درويش يقطن في حي شعبي مثلي.
في أغسطس عليك أن تفتش كثيرا قبل أن تعثر على شيء يستحق أن تكتب عنه، فهو شهر لا يصلح للكتابة ولا للعتاب ولا لأمسيات الشعر، ولا لأي شيء آخر سوى الجلوس في المقاهي والثرثرة في مواضيع تافهة...في انتظار أيلول.

نقلا عن صفحة الكاتب