أيار 2018 في فرنسا… والربيع العربي 2011

أربعاء, 2018-05-09 09:24
محمد كريشان

عشرات الكتب تتصدر هذه الأيام واجهات المكتبات الباريسية في الذكرى الخمسين لتلك المظاهرات الطلابية الشهيرة التي شهدتها العاصمة الفرنسية في مايو/ أيار 1968 والتي انطلقت على إثرها إضرابات عامة عديدة ومواجهات مع قوات الأمن أسفرت عن سقوط بعض القتلى ومئات الجرحى. 
خمسون عاما كاملة سمحت الآن بتفكيك كل خلفيات تلك الأحداث التي انطلقت في عهد الرئيس شارل ديغول بثورة شبابية طلابية باريسية قبل أن تمتد لطبقة العمال وأغلب شرائح الشعب على امتداد التراب الفرنسي لتشكل أهم تحرك اجتماعي في تاريخ فرنسا في القرن العشرين. كل هذه الكتب تحاول الآن بأشكال مختلفة تقديم قراءة أعمق وأشمل لتلك الأحداث التي بدأت عفوية ذات طابع اجتماعي وثقافي وسياسي لتصبح لاحقا ضد الرأسمالية والامبريالية الأمريكية. ومنذ ذلك التاريخ بات ينظر إلى تلك التحركات الصاخبة والمواجهات العنيفة على أنها قطيعة كبرى مع الثقافة السائدة في فرنسا ونمط المجتمع القائم فيها ومجمل مؤسساتها التقليدية. 
الآن بإمكان مئات الآلاف من شباب وطلاب ذلك العام الذين خرجوا مزمجرين في المظاهرات ومن بين شعاراتهم «كونوا واقعيين، أطلبوا المستحيل!!» أو «المنع ممنوع!!» أو أولئك العمال الذين أضربوا واحتلوا المصانع أن يقتنوا بعض هذه الكتب ليقرأوا ما عاشوه بكل جوارحهم وكأنه حدث بالأمس فقط. سيطالعونه عجائز متقاعدين أو حتى مقعدين ليقلبوا صفحات تلك الأيام ويعرفوا بالضبط ما كان متاحا من المعلومات وما خفي منها، سيطالعونه بدهشة هنا وزفرة هناك ولم لا ببعض الابتسام.
ربيع 2011 في عدد من الدول العربية شهد زلزالا أكبر وأشد، عموديا وأفقيا، مما حدث في فرنسا عام 1968. بدأ في تونس ليمتد إلى مصر وليبيا وسوريا واليمن، مع بعض الارتدادات مختلفة القوة في البحرين وعُـمان والمغرب… فهل علينا أن ننتظر خمسين عاما كاملة لنعرف كل الحقائق والخلفيات عن حقيقة ما جرى هناك؟!! لا أبدا.. ليس قدرا أن تسير الأمور على هذا النحو فالعالم تغير ولم تعد الحقائق تختفي أو تغيّب بنفس الكثافة ولفترات زمنية طويلة.
من الآن، نحن أصلا نعرف الكثير مما جرى في تلك الدول وكيف تطورت الأحداث الاحتجاجية لتأخذ هذا المنحى أو ذاك، لكننا لا نعرف كل شيء ولسنا محكومين بأن ننتظر خمسين عاما كاملة لنرى الصورة كاملة. لقد صدرت كتب عديدة هذه السنوات عن ثورات الربيع العربي، لكننا بالتأكيد ما زلنا لا نملك كل الحقيقة وإن كان بالإمكان القول إننا نملك قدرا كبيرا منها.
لن ننتظر 50 عاما كاملة لنعرف أن نظام بن علي كان مستبدا وفاسدا رغم بعض نجاحاته الاقتصادية، ولن ننتظر 50 عاما كاملة لنعرف أن مبارك كان على شاكلته وأنه كان يخطط لتوريث ابنه بعد ثلاثة عقود من حكمه، ولن ننتظر المدة نفسها لنعرف أن القذافي عاث في ليبيا فسادا وسفاهة لاثنين وأربعين عاما، أو أن حكم آل الأسد لسوريا امتطى الشعارات القومية الرنانة لتبرير ديكتاتورية وحشية، أو أن علي عبد الله صالح لم يفلح سوى في إبقاء اليمن فقيرا معدما وإن كان متماسكا.
كلنا كنا نعرف ذلك، ولم نكن بحاجة إلى أي كان يشرح لنا أو يحلل أن كل ظروف التمرد على تلك الأوضاع نضجت بما يكفي وأن الناس في هذه الدول ما كان لها أن تفعل سوى ما فعلته، رغم أن جميعها كانت تتمتع بالاستقرار لكنه «استقرار المقابر» على حد وصف رئيس الوزراء التونسي الراحل محمد مزالي عندما كان يتحدث عن تونس معارضا في المنفى. كلنا كنا نعرف ذلك ونعرف اليوم أكثر، لكن ما ظل غائبا عنا ولم يتسرب منه سوى القليل هو حجم ما حصل من تدخلات خارجية في كل من هذه الدول.
طبيعة هذه التدخلات وحجمها وأهدافها وسياقها يختلف من بلد إلى آخر، بعضها عربي وبعضها الآخر أجنبي، منه ما هو عسكري ومنه المخابراتي ومنه المالي، منه من كان لدعم عملية التغيير، ولو أحيانا بوسائل ووسائط غير مناسبة، ومنه من كان للحفاظ على الوضع القائم واجهاض الاحتجاجات الشعبية الغاضبة. ليس صائبا تصوير كل ما جرى في هذه الدول على أنه مؤامرة خارجية صرفة كما أنه من السذاجة تصوير أن كل ما يجري، أو ما زال يجري، تم أو يتم بمنأى عن أي عامل خارجي قريب أو بعيد، سابق أو لاحق، كما أن حجم تدخل بعض الدول العربية في ما يعرف بـ« الثورة المضادة» يحتاج لكثير من الرصد للشرح وفهم الخلفيات. لن ننتظر 50 عاما لنعرف كل ذلك… بل ولدينا من الآن أصلا، والحمد لله، بعض المعرفة على الحساب.

نقلا عن القد س العربي