أيار 1968 أو ومضة الاستشعار الصحافي

سبت, 2018-05-12 10:25
مالك التريكي

من الملاحظات الثاقبة التي أبداها المفكر الفرنسي ادغار موران قبيل حلول الألفية الثالثة أن العلوم الاجتماعية، بل المعرفة الإنسانية بإطلاق، لم تتح لنا إمكانية التنبؤ بأي من أحداث القرن العشرين الجسام. فقد أتت معظم هذه الأحداث فجأة أو دفعة واحدة دون سابق إشعار. ومع ذلك، فإن من المعتاد أن يجد الباحثون، بعد وقوع الحدث، عوامل تفسيرية تعلّله، بل وأسبابا موضوعية تحتّمه، بحيث يبدو من المستحيل، في نهاية التحليل، تصور إمكان عدم وقوعه. هذا رغم أن الحدث لم يخطر ببال أحد قبيل وقوعه بيوم واحد. وهذا هو المقصود بالقولة الانكليزية عن سهولة الحكمة البعدية: «حكمة النظرة إلى الخلف».
إلى هذا الجنس، الممتنع على قبلية التصور أو قابلية التنبؤ، تنتمي ثورة الطلاب الشهيرة التي تحيي فرنسا هذا الشهر ذكراها السنوية الخمسين. كانت فرنسا آنذاك في عز ما سماه الباحث الاقتصادي جان فوراستييه «الثلاثين المجيدة»، تنعم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية برغد العيش وإشراق الآفاق. حيث كانت البطالة شبه منعدمة (في حدود 2٪‏)، ولم تكن هشاشة موارد الرزق تنهش حياة العمال والأجراء مثلما هي الحال اليوم، وكانت نسبة العجز في ميزانية الدولة ضئيلة والدين العام محدودا، ولم تكن ظاهرة الضواحي والأحياء المحرومة والمهمشة قد ظهرت بعد، ولا ظاهرة التوتر بين الأغلبية البيضاء وبين الأقليات الإسلامية والإفريقية. وكانت فرنسا لمّا تدخل بعد في متاهة الخصخصة التي انتهت في الأعوام الأخيرة بتفويت كل ممتلكات القطاع العام. كانت الدولة ما تزال تتولى مهام التخطيط، والتوجيه، والإنتاج (في المجالات الحيوية) وإعادة توزيع الثروة الوطنية. وكان التفاوت بين الطبقات أو الفئات الاجتماعية محدودا أو معقولا. أما القدرة الشرائية للعمال والموظفين، وعامة الأجراء، فقد كانت تتحسن باستمرار. 
كما أن حل القضية الجزائرية مهد الطريق أمام فرنسا لانتهاج سياسة دولية مستقلة نسبيا عن أمريكا. وتجلت هذه الاستقلالية، مثلا، في قرار الجنرال ديغول إخراج فرنسا من القيادة المندمجة لقوات حلف شمال الأطلسي، مع ما عناه ذلك من التعويل على الذات في مجال استخدام سلاح الردع النووي. كما تجلت في قرار منع مبيعات الأسلحة لإسرائيل إبان حرب حزيران/يونيو1967. 
وقد أتاح وضع القوة التوازنية هذا لفرنسا استضافة المؤتمر الذي أدى إلى إنهاء الحرب الأمريكية في فيتنام.
إذن لم يكن هنالك من الشروط الموضوعية ما يسمح باستشعار بوادر هبوب عاصفة أيار/مايو 1968. صحيح أن ثلاثة آلاف من عمال النسيج أضربوا عن العمل طيلة شهر بداية من25 شباط/فبراير 1967، وأن حزب ديغول واجه صعوبة بالغة في انتخابات12 آذار/مارس 1967 فلم يفز إلا بأغلبية صوت واحد، وأن الطلاب في باريس أحرقوا أعلام أمريكا يوم 7 نيسان/ابريل 1967 احتجاجا على زيارة نائب رئيسها هربرت همفري إلى فرنسا، وأن عشرين ألفا من الفلاحين في غرب البلاد نظموا مظاهرات أسفرت عن إصابة حوالي ثلاثمائة منهم في 2 تشرين الأول/اكتوبر 1967.
وصحيح أيضا أن لوموند تحدثت عن «انتفاضة عمالية» بشأن الإضراب الذي شنه عمال مصنع للشاحنات في منطقة نورماندي أواخر كانون الثاني/يناير1968. 
ولكن كل هذه الأحداث لا تخرج عن نطاق ما هو معهود في معظم الديمقراطيات الغربية، ولا يمكن أن تتيح، ولو مجتمعة، إمكانية التنبؤ بحدث محدد. وبمثلما أن الفن عموما، والأدب خصوصا، ينفذ إلى الحقائق الإنسانية التي لا يمكن أن تقاربها المعرفة العلمية، فإن الصحافة يمكن، في بعض الحالات، أن تستشعر ما لا تستشعره العلوم الاجتماعية. 
والدليل هو أن بيار فيانسون ـ بونتي، مسؤول القسم السياسي في جريدة «لوموند»، قد شخّص حالة من الضيق وعدم الرضا في البلاد، فكتب في 15 آذار/مارس1968 مقالا بعنوان «عندما يصيب فرنسا الملل». وهي عبارة مقتبسة من الأديب والسياسي الشهير لامارتين. قالها أولا عام 1839 ثم جددها عام1847، أي قبل أشهر من انتفاضة1848 التي دشنت ما عرف بـ«ربيع الشعوب» الأوروبية. كما أن قدرات فيانسون ـ بونتي الاستشعارية قد تجلت أيضا في مجال التقاط المواهب. إذ يرجع إليه الفضل في فتح صفحات لوموند أوائل السبعينيات لكاتب مغربي مغمور، هو الطاهر بن جلون الذي سيصير، عام1987، أول عربي يفوز بجائزة الغونكور.

نقلا عن القد س العربي