الإصلاح في مواجهة الاستعمار

أربعاء, 2018-05-30 11:04
نور الدين ثنيو

كان الإصلاح يعني في الحالة الجزائرية، طوال النصف الأول من القرن العشرين، مواجهة المؤسسات الطُّرقية ونظمها القائمة على تقديس الشيخ والعائلة وتمجيد عادات وتقاليد التي تكلَّست زمن تراجع التاريخ العربي وحضارته من دين ولغة. فقد انْبَرت الحركة الإصلاحية للفكر الخرافي ومتوالياته من البدع والأساطير والأوهام. لكن الحقيقة أن معنى الإصلاح لم يكن قاصرا على هذا فحسب بقدر ما اتسع أيضا إلى مواجهة النزعة الاستعمارية التي لازمت مؤسسات السلطة الفرنسية في الجزائر. وقد تطلب الأمر، بداية من تأسيس جمعية العلماء المسلمين، أن ينهض المصلحون بمهمة الحد من غلواء وشطط الاستعمار من داخل المؤسسات، والسعي للوصول إلى المجال العام من سياسة وإدارة كأفضل سبيل حديث للنهضة والرقي وتعديل شرط حياة الجزائريين. ونعتقد، تجنبا للنيل من قيمة النشاط الكبير الذي اضطلعت به الحركة الإصلاحية، خاصة رمزها العظيم ابن باديس،أن نلتفت أيضا إلى دورها في نقد الاستعمار واستثمارها في المجال الذي تخلت عنه الإدارة الفرنسية، ونقصد الدين الإسلامي واللغة العربية والتقاليد والأعراف والأحوال الشخصية.
لم تكف السلطة الفرنسية عن إصدار تشريعات واتخاذ إجراءات وتدابير تحد من وصول الأهالي الجزائريين إلى صفة المواطنة ومن ثم التحلي بالمركز القانوني والاجتماعي الذي يليق بهم في دولة المؤسسات العامة التي يجب أن لا تميز بين أفرادها حتى تنعت فعلا بدولة المواطنين، أو مواطنين في الدولة. وعليه، بعد العودة إلى تاريخ الحركة الإصلاحية الجزائرية، علينا أن نقف مليا عند نقد المصلحين للسلطة الاستعمارية، وهم يسعون إلى محاولة فضح وكشف تناقضات ومفارقات الإدارة الفرنسية في الجزائر، ولعّل أول هذه المفارقات وصف المؤسسات العمومية في الجزائر بأنها مؤسسات جزائرية، وأن الأهلي المسلم فرنسي لكنه يبقى خاضعا للشريعة الإسلامية، كما ورد ذلك صراحة في القرار المشيخي عام 1865، علاوة على سن مدونة كاملة من القرارات والإجراءات والتدابير الزجرية والردعية تصدرها السلطة تباعا لمستجدات الأوضاع والأحوال، مدونة عرفت بقانون الأهالي أفصحت بشكل سافر عن اضطهاد عنصري يتناقض البتة مع روح ومعاني المسعى الإنساني الذي جاءت من أجله فرنسا إلى الجزائر. 
وعليه، تلافيا لكل تحليل خاطئ في شأن دور العلماء الجزائريين وموقفهم من نوازل وأحداث وتصرفات السلطة الفرنسية في الجزائر، نجدهم، أي المصلحين، لم يحاربوا الاستعمار، كما يشاع في الخطاب الشعبوي وفي المواقف والآراء المتحزبة، بل عمدوا إلى نقد تصرفات الإدارة عبر التماس الشرعية واحترام القوانين والعودة إليها لتبرير كل مسعى إصلاحي، ومن ثم فإن النشاط الإصلاحي كان في المبدأ والمسعى والغاية مؤسسا على الشرعية ولم يكن خروجا عن الإطار ولا نطاق مؤسسات الدولة، وأن أسلوب مواجهة النزعة الاستعمارية لم يكن لدى العلماء وغيرهم من الإصلاحيين بمعنى الحرب أو الثورة أو التمرد،كلا.. الرد بما تمليه روح المدنية التي طالما ألح عليها ابن باديس.
إن «نقد» المصلحين للوضع الاستعماري، كما نحاول أن نشرحه في هذا المقال، مفهوم يساعد على فهم أفضل لتاريخ الحركة الإصلاحية، عبر شخصية ابن باديس، في مواجهتها ليس للطرفية ومظاهرها فحسب بل مواجهتها أيضا للسلطة الاستعمارية. ومن هنا، يمكننا أن ندرك حقيقة الحركة الإصلاحية التي واجهت عبر الإصلاح الوضع الديني المتخلف ومتعلقاته في الجزائر، كما تصدت بالنقد لمعاملات الإدارة الاستعمارية حيال الأهالي المسلمين، وينجر عن كل ذلك إضافة معنى النقد لمفهوم الإصلاح في حالة الحركة الإصلاحية، عبر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، بذلك يستقيم فهم دور الإصلاحيين في الجزائر الذي انطوى على الإصلاح الديني ونقد الاستعمار. 
نقد الحركة الإصلاحية للوجه الاستعماري في نظام الحكم الفرنسي متأتي من الوعي الذي امتلك « العلماء» لحظة دخوله في لحظة إنتاج تناقضاته الصارخة ومفارقاته الفادحة. ونأخذ على سبيل المثال، لا الحصر، المسألة الدينية، التي كانت مبرر وجود الحركة الإصلاحية أصلا. فقد تبنت الدولة الفرنسية قانون الفصل عام 1905، وتم بموجبه فصل الكنائس عن الدولة، أو ما عرف بإضفاء الصفة اللائكية على نظام الحكم كأفضل سبيل إلى خروجه عن العصر الكنسي الظلامي، ومن ثم ضبط نفوذ وسطوة الكنيسة على الفرد والمجتمع في الدنيا والآخرة. غير أن السلطة كشفت عن مظهرها الاستعماري عندما امتنعت عن تطبيق قانون الفصل على الإسلام في الجزائر، وآثرت احتكار الأوقاف ونظم الطرق والعبادات ضمن صلاحياتها وسيادتها، مورطة نفسها في مفارقة لا يمكن أن تسوّغها الدولة اللائكية الحديثة. 
ومن هذا المظهر، دخلت الحركة الإصلاحية إلى ممارسة حقها في نقد الاستعمار باعتباره جهازا لإنتاج التناقضات والمفرقات، وكونه ظاهرة مناهضة للتاريخ الحديث والمعاصر الذي يأبى الوحدات والأنظمة المتناقضة داخل الدولة ذات المؤسسات العمومية. وهكذا، يكون نشاط علماء الإصلاح قد استهدف في البد والسياق والغرض نقد الاستعمار بالأسلوب المهادن والسلس والمسالم الذي لا يعرِّض الوضع القائم للخطر ويحافظ في ذات الوقت على الخاصية الجوهرية للحركة كونها حركة إصلاحية وليس ثورية، ومؤسسة محافظة لا تمت للشعبوية والطرقية بأي صلة، بل مؤسسة في مستوى الوطن كله، تقدم الدين الإسلامي للشعب كله عندما يكون المقوم الجوهري للدولة الحديثة. 
ظهرت الحركة الإصلاحية الجزائرية في سياق مدني وسياسي حديث لم تعهده الحركات الإصلاحية الدنية السابقة التي كانت تأتي لحظة أفول كل قرن. فقد جاءت الحركة الإصلاحية في جزائر « تزخر» بمؤسسات إدارية حديثة تعكس وضعية استعمارية اتسمت بالتعدد والاختلاف والتنوع الذي يأبى أي احتكار للحقيقة سواء أكانت اجتماعية أو سياسية أو حتى ثقافية/ دينية. في مثل هذا السياق الجديد كل الجدة على الجزائريين، اجترح رجال الإصلاح مشروعهم من أجل النهضة الجزائرية الشاملة وهم على وعي بأنهم لا يمتلكون كل حقائق المجتمع الجزائري، وأن أفضل سبيل إلى النهضة واستعادة ملامح الأمة وخصائصها هو إصلاح الوضع عبر مؤسسات الدولة ونقد قوانين السلطة الاستعمارية بمقابلتها بمعاني العدل والإنصاف وروح المدنية الحديثة والحرية والمساواة…

القد س العربي