البشير عبد الرزاق: كونكوري...

خميس, 2015-07-09 14:18
البشير عبد الرزاق

كان قسم السنة الخامسة يقع في نهاية الجهة الشرقية من المدرسة الابتدائية رقم 2 في مقاطعة لكصر، يقودك إليه ممر اسمنتي يبدأ من مكاتب الإدارة وتتفرع منه ممرات أخرى، تؤدي بسالكها إلى بعض فصول تلك المدرسة العريقة عراقة مقاطعتها وأهلها. 
وقد تعود التلاميذ وهو يسلكون ذلك الممر في تلك الساعة المبكرة أن يحكوا أحذيتهم على البلاط الإسمنتي، فيحدثوا صوتا متناغما كان يتقطع أحيانا كلما نهرهم معلم أو أحد المراقبين.
تقاطر التلاميذ فرادى وجماعات ونعاس الليلة الماضية ما زال يداعب جفونهم، وكسرت همهماتهم وأحاديثهم الخافتة هدوء المكان، ثم ما لبث الصمت أن ابتلع كل شيء عندما ظهر المعلم في بداية الممر.
"جاء المعلم"، ترددت تلك العبارة كالعادة في كل أنحاء القسم، وهرع الجميع إلى مقاعدهم ودفنوا رؤوسهم الصغيرة بين أوراق دفاترهم وكتبهم.
كان صباحا عاديا لدرجة أنك كنت تشم فيه ذات رائحة كل صباحات ربيع السنة الدراسية 1981-1982 التي سبقته، وكان يمكن أن يبقى كذلك لولا الإعلان الذي أدلى به المعلم قبل بداية الدرس: "فلان وفلان لقد قررت إدارة المدرسة أن ترشحكما لمسابقة دخول السنة الأولى من التعليم الإعدادي".
كنت أحد "الفلانين"، وحاولت جاهدا أن ابتلع ريقي وأن أمتص مشاعر الزهو والخوف التي هبطت على جسدي الهزيل دفعة واحدة في تلك الساعة المبكرة، أما الفلان الثاني فلم يكن أحدا آخر غير صديقي ورفيق دربي إلى المدرسة، فتى يوميات غوانتنامو، محمدو ولد الصلاحي فك الله أسره.
كان علينا أن نخضع لاختبار في مكتب مدير المدرسة اجتزناه بنجاح وسط عبارات الثناء التي أغدقها علينا ذلك الشيخ الوقور، وبعدها قادنا معلمنا إلى قسم السنة السادسة وقدمنا لزميله الذي رحب بنا بابتسامته العريضة وطلب بنا الدخول، لتتلقفنا نظرات إعجاب ممزوجة ببعض الضحكات المكتومة.
كانت السنة الدراسية 1981-1982 من أروع سنوات عمري، كلها تحدي وخوف وزهو وقد بلغت تلك المشاعر ذروتها في شهر يوليو من تلك السنة، عندما تحلقنا حول المذياع للاستماع إلى نتائج كونكور.
كانت أمسية خريفية حارة ورطبة مشبعة براحة المطر القادمة من الجنوب ومسكونة بأحلام طفولية بريئة ومذهلة، وكانت الزغاريد والتصفيقات تسمع في جميع أرجاء ذلك الحي الشعبي كلما أعلن عن نجاح أحدهم...
ونجحنا ...وأي شعور انتابنا يومها، ببساطة أحسسنا بأننا أصبحنا رجالا، وأكبر هدية يمكن أن تقدمها لأي طفل في هذا العالم، هي أن تجعله يحس بأنه حصل على تذكرة ذهاب بدون عودة مصحوبة بدعوة مفتوحة للالتحاق بنادي الرجال.
هذه القصة تذكرتها بتفاصيلها الدقيقة، خلال الأمسية الرمضانية الماضية، وأنا أبحث عن اسم ابني بين ركام موقع الكتروني ابتلنا به وزارة التهذيب، أقل ما يقال عنه إنه غير مهذب وأن دماغه ناشفة جدا، إذ لم يكن علينا أن نبحث عن إبرة في كومة قش، بل كان علينا أن نجد كومة القش أولا قبل أن نفتش عن إبرنا.
هذه القصة لا أهديها فقط إلى ابني وإلى كل أقرانه الذين وفقوا في اجتياز عتبة الابتدائية، بل أهديها على وجه الخصوص إلى نزيل زنزانة في "غوانتنامو" طال انتظار أمه ووطنه.

نقلا عن صفحة الكاتب