يكثر الجدل هذه الأيام بين بعض المدونين في الموقف من فتاوى بعض العلماء في القضايا العامة بين طرف يؤيد مواقف هؤلاء العلماء المثيرة للجدل أحيانا ، و طرف ينتقد هذا التدخل و يصفه بالتدخل المرفوض في ظل وجود دولة مدنية يفترض أن يتم التمييز فيها _وليس بالضرورة الفصل_ بين ما هو دعوي و ما هو سياسي ..
و يجد هذا الجدل جذوره في الخلاف التاريخي بين الإسلاميين و العلمانيين ، فكيف ظهر هذا الخلاف ؟ و ما هو سياقه الفكري و السياسي و الإجتماعي ؟ وهل من سبيل إلى كلمة سواء و نقاط مشتركة أن لا يخون بعضنا بعضا و أن نتحلى بمستوى من الرقي الأخلاقي و نتخلى عن الإساءات و الإساءات المضادة ؟
منذ نهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين و العالم العربي و الإسلامي يعيش حراكا فكريا و ثقافيا و أدبيا ، تبلور على شكل تيارات فكرية و سياسية و أدبية ، تشكلت في ضوء الصدام الحضاري بين الشرق و الغرب ، المتمثل في حملة نابليون على مصر و غيرها من الأحداث التي هزت الأمة الإسلامية ، و اختلفت تلك التيارات في التعاطي مع الأزمة (أزمة الهوية )، ما بين تيارات انبهرت بالغرب انبهارا كليا ، فاختارت تصوراته عن الحياة و القطيعة مع الماضي باعتباره سبب نكسة الأمة و تخلفها ، و بين تيارات انغلقت أمام الوافد الجديد و اعتبرت الماضي بكل مافيه هو الحل ، و أن كل جديد هو بدعة و ضلالة و منكر يرفضه الدين ، و بين تيارات اختارت الوسط بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى ، بمعنى أن نأخذ من الماضي ثوابته و الأوجه المشرقة فيه ، و من الوافد الغربي كل مفيد ، و أن الآليات حيادية تستخدم في الخير كما تستخدم في الشر ، و أننا يمكن أن نضفي " لمستنا الخاصة " على هذه الآليات بما فيها الديمقراطية و غيرها .. و من هذه التيارات ما يعرف بالتيار الإسلامي .
وبما أن هذا التيار دخل الحياة من أوسع أبوابها : سياسيا ، فكريا ، اجتماعيا ، إعلاميا ، دعويا ، اقتصاديا ... فقد دخل في منافسة قوية مع تيارات منافسة له : يسارية ، علمانية ...
وقد اختلفت تجربة التيار الإسلامي من بلد لآخر ، بين تجربة ناضجة مستوعبة للآخر و تجربة أقرب للتطرف ، وواجه هجوما شرسا من ألد خصومه من اليسار و العلمانيين ، هذا الهجوم الذي يجد جذوره في الخلاف الفكري باعتبار الإسلاميين يؤمنون بشمولية الإسلام و العلمانيين يؤمنون _ في بعض الأحيان _ بإسلام لا علاقة له بالواقع المعيش ولا كلمة له في الحياة السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية " و إن كانت العلمانية تنقسم إلى علمانية شمولية وعلمانية جزئية ليس المجال مجال تفصيل في ذلك "
و يجد هذا الجدل جذوره أيضا في الخلاف السياسي بين الطرفين ، ففي الوقت الذي تصوت فيه بعض الشعوب العربية للإسلاميين في الإنتخابات ، نجد بعض العلمانيين يقود حركات احتجاجية قوية للإطاحة بهم ، و دعم الإنقلابات العسكرية ، في ضرب واضح لأسس المبادئ الديمقراطية القائمة على التداول السلمي للسلطة ، و الإعتراف بنتائج الإنتخابات أيا كانت .
ويجد أيضا جذوره في الحياة الإجتماعية المتباينة لطرفيه ، ففي الوقت الذي يقوم فيه الإسلاميون بإنشاء منظومة اجتماعية دعوية خاصة بهم ، معتبرين أنها أقرب للتمثل بالإسلام في ناحيته الإجتماعية ، يرى اليساريون والعلمانيون الحرية دينا لا بديل عنه ، و يرفضون التأثير في الشأن العام اجتماعيا من طرف أي تيار ، باعتبار حرية المجتمع الراشد الذي لا وصاية لأي مكون أيديولوجي عليه ،_ و أنا هنا أنقل رأي كل فريق _ و أن ممارسة الوصاية على المجتمع و احتكار الفضيلة أمر مرفوض رفضا كليا ، و أن لا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة ، فالحقيقة _على حد تعبيرهم _ فردية لا جماعية ، و كل شخص يمتلك الحقيقة من وجهة نظره ، ولا يحق لأي شخص التدخل في حياته او ممارسة التأثير عليه _ وهذا في الحقيقة جدل فلسفي كبير أثير في ضوء روافد الثورة الفرنسية .._ .
كانت تلك هي السياقات الفكرية والسياسية و الإجتماعية للجدل المثار بين الإسلاميين و العلمانيين و جذوره التاريخية ،
و نخلص إلى الفكرة الأخيرة و هي البحث عن " كلمة سواء " و نقاط مشتركة بين الطرفين للإنطلاق منها نحو تعايش سلمي بينهما ، و من أجل فرض مستوى من الإحترام بين أنصارهما ، و نبذ التنابز بالألقاب و الإساءات .
إذا عدنا لأدبيات الطرفين نجدها تحث على احترام الرأي الآخر و استيعابه ، و أن الإختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية .
والحقيقة أن التنوع _ حيث هو _ إيجابي جدا ، و هو يدل على مستوى الوعي لدى الشعب ، فكلما كنا أمام شعب واع كلما كنا أمام تنوع فكري و سياسي و ثقافي ، وبالتالي كان هذا التنوع عامل ثراء و مبعث جمال و ليس وسيلة تخريب أو هدم .
في المجتمعات المتحضرة الجميع يحترمون رأي الآخر و فكرته و قناعاته و أطروحاته ، ولا يصنفون الآخر على أساس فكره ولا معتقده بل على أساس معاملاته و صدقه و وفاءه و احترامه للمواعيد .
وليس لدي أدنى شك بأن هذه الأسس في احترام الرأي الآخر تجد جذورها في الإسلام ، كيف لا و القرآن يقرر أنه " لا إكراه في الدين " و أنه " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من درياركم أن تبروهم و تقسطوا إليهم ... "
و هذا أقره القرآن في حق المخالفين في الدين ، فكيف بمن يدينون نفس الدين و يجمعهم نفس الوطن و نفس التطلعات و نفس الهم الوطني .
لأجل ذلك أناشد كافة المدونين من كلا التيارين ، أن يتوقفوا عن الإساءات و الإساءات المضادة ، و أن يهتموا بما يعلي من شأن الوطن ، فالوطن بحاجة لطاقات الجميع ، و هذه المشاجرات هنا و هناك و الإساءات لا تخدم وطننا في هذا الظرف الحساس الذي نحتاج أن نكون فيه يدا واحدة لأجل وطن مزدهر .