أزمة النظام كمأزق طارئ للحراك في الجزائر !

بشير عمري

جمعة بعد جمعة والصراع لا ينفك يشتد حول التغيير بين رافض لكليته المرفوعة وهو النظام ورافض لجزئيته المقترحة وهي قوى الحراك الثوري، الساعية للقطع من أصول هذا النظام وقواعد إمداده بالخلود والديمومة الفكرية منها والبشرية المتناسلة جيلا بعد جيل، ما ينذر بأفق معتم لبلد أفقده منطق “قوة فرض الواقع” على حساب قوة تفعيل الوعي كل معالم الإنبناء على معايير التأسيس القُطري التي جاد بها وأوجدها التاريخ من خلال تراكم تجاربه في نشأة الدول والأنظمة وسيرورتها.
مستجد أكثر من طارئ على الحالة الجزائرية وتركيبة الهرمية السلطوية بطبقاتها المتضادة والمتعاضدة في ذات الوقت، ما طرح أكثر من سؤال على طرفي النقيض في المشهد التصارعي الجديد.
من خلخل بنية النظام التي ظلمت متماسكة داخل تناقضاتها ولماذا؟ ومن فكك وحدة التوجه لقوى التغيير الشعبي التي بدأ بها الحراك الثوري مساره، وكيف؟ ما زاد من احتمال في الفشل جزئي ولكن الجوهري للحراك الثوري.
الإجابة على هذين السؤالين تقود بالضرورة إلى فهم الحالة المعقدة التي آل إليها المشهد السياسي الجزائري الذي بات واضحا أن فترة بوتفليقة كانت فيه فارقة بحيث فككت ليس بنية النظام الكلاسيكي في الجزائر وإنما طالت عُرى المجتمع بمرجعياته الاجتماعية والتاريخية والسياسية من دون توافق واع ووعي توافقي وطني تعمل ساحة سياسية جادة على السير في نسقه.
في البدء ينبغي الاتفاق حول كون شيخوخة النظام الجزائري محور سببي في الانهيارات التي تلاحقه منذ أن سقط المشروع الوطني الانقلابي الأول لجماعة وجدة، سنة 1988 في أحداث أكتوبر الشهيرة التي اعترف جزء من النظام باستحالة بقائه وحيدا في مواجهة وعي جديد يتنامى في المجتمع ما دفعه إلى فتح التعدد السياسي، قوبل برفض عنيف استتر أمره لسنتين قبل أن يصدع بعنفه في الانقلاب العسكري الثالث في الجزائر عام 1992 ويقضي من يومها على كل أمل في الخلاص من مشروع دولة الاستقلال او الاستقلاب (من الانقلاب) وذلك عبر قلب المستجد الهرمي للوعي وإعادة فرض الأجهزة المنتجة لخطاب وأيديولوجية دولة الاستقلال وهي حزب جبهة التحرير الوطني المنبوذ شعبيا وإنتاج قطب سياسي مصطنع نقيض شكلا لجبهة التحرير الوطني سمي بالتجمع الديمقراطي الوطني، وجلب قطب إسلامي لإرادة النظام كنقيض لتيار المغالبة الذي مثلته الجبهة الإسلامية للإنقاذ ونعني به هنا حركة مجتمع السلم الاخوانية، مستعملا في ذلك إستراتيجية الاحتواء المزدوج، القائمة على ثنائية العنف الأمني والإغراء الريعي،  بشراء ذمم قادة والكثير من مسئولي هاته الأحزاب داخل قواعدها النضالية.
وهكذا تم رسم صورة هوشاء وغير صحيحة لنظام فعلي يقف خلف الستار ويعطل مشروع التعددية الصحيحة والسليمة التي كانت ستفضي بالبلاد إلى ترسيخ تقاليد ديمقراطية صحيحة وحقيقية.
التحول الصوري الذي عرفته تركيبة النظام بعد انقلاب 1992، سمحت له بالاستمرار عضويا أي بيولوجيا إلى حين، لكنه حالت دون ديمومته في الوعي الشعبي كونه عجز عن إنتاج إيديولوجيا وخطاب مستمد منها في ظل تهاوي الإيديولوجيات الاستقلالية الكلاسيكية والتغييرات الحاصلة في فضائي الفكر والممارسة لمنطق الدولة المعاصرة، لتأتي أزمة النفط الذي ظل بريعه يشتري ذمم سياسيي المعارضة في النخب الحزبية والسياسية وبالموازاة مع ذلك يشتري السلم الاجتماعي في الأوساط الشعبية من خلال فتح القنوات البنكية أمام الشباب الثائر للحصول على قروض غالبا ما لا يتم دفعها، فتعص بصفوفه ومخططاته وصار أفراده وكتله بعضه يأكل بعض وبعضه يضحي ببعض
وهنا تتضح متلازمة الإخفاق المتتالي للسلطة والمعارضة في ذات الوقت، عقب هزة يكون مركزها الشارع الثائر، ما يعني بوضوح تمكن النظام من ابتلاع المعارضة بأشكال ومستويات مختلفة وربط مصيرها بمصيره ولعل هذا ما فسر رفض الحراك الشعبي لمشاركة هاته المعارضة بأحزابها وشخصياتها في بادرته الثورية معتبرا إياها جزء من النظام وبالتالي من المشكلة وليس من الحل.
اللجوء إلى إستراتيجية التشتيت الاستعمارية
وأمام عدم قدرة بقايا نظام الاستقلال وأذرعها في المعارضة من الوقوف في وجه الوعي الجديد الذي برز مع ثورة الحراك الشعبي الكبير، الذي شمل كل القطاعات، الطلابية، الحقوقية، الرياضية، عاد دهاقنته إلى إستراتيجية الاستعمار في محولاته لتشتيت قوى الرفض الشعبي لمخطط الاحتواء، بتأجيج النعرات الجهوية والاختلافات الإيديولوجية والزلل الشللي في تاريخ النضال الوطني، مستغلا في ذلك أخطاء ارتكبها الحراك في إستراتيجيته لتقويض أسس هذا النظام، أبرزها البقاء على وحدة تامة على صعيدي الخطاب المطلبي بعدم تجاوز مطلبية التغيير الشامل والكامل، تأجيل كل مطلب فيئوي وجهوي، ووحدة الرمز بعدم حمل أي شعار أو رمز خاص بمنطقة معينة أو ثقافة ما يسمح للنظام بتوظيفه لتأليب طائفة عن أخرى وجهة عن جهة.
وهذا ما حدث فعلا، بحيث ظهرت أولى الانشقاقات في جسد الحراك، بعد أن رفض القبائل من دعاة المطلب الثقافي البربري “الامازيغي” كل الأصوات التي نادت بوجوب عدم حمل أية راية إلا الراية الوطنية التي يُجمع عليها كل الجزائريين، ما أحدث شرخا في بنية الحراك ووعيه التغييري الطارئ استعمله النظام بطريقة خبيثة وإذ استدعى التاريخ عبر الثنائية النوفمبرية- الباديسية، أي مرجعية الثورة المسلحة (النوفمبرية) التي اجتمع حولها كل الجزائريين دونما استثناء، والبادسية نسبة إلى الإمام ابن باديس الذي جعلته سلطة الاستقلال المرجع عنوانا فارغا لمشروعها الثقافي والانتمائي للمجتمع من خلال قصيدته الشهيرة (شعب الجزائر مسلم  وإلى العروبة ينتسب) الذي ترفضه القوى المطلبية الامازيغية والتيارات الفرانكفونية المرتبطة بهذه القوى فكريا وإثنيا بشكل واسع.
الجدل النخبي الفوقي القاتل
وما كان للنظام أن يفلح في سعيه لإحداث هذا الشرخ في جدار الحراك المتحرك الجارف لكل قواعده، لولا السقوط المريع للنخب الثقافية من الطرفين المعربة بجناحيها الإسلامي والوطني والفرانكفونية بجناحيها البربري (الامازيغي) العلماني، التي زاغت كلية عن مسير الشارع وصمت عن صوته وعادت وتعالت في برجها العاجي للتتطارش وتتناوش بالتاريخ والمعرفة ولزوم خيارها عمن لدى غيرها للمجتمع كي يتطور ويتحضر، وضع أسر وأغبط النظام فسارع إلى تغذية ذلك السجال على كل المستويات الإعلامية وعبر السوشل ميديا، ما كان له الانعكاس السلبي على أرض الواقع، بحيث انخفض منسوب المد الشعبي الذي كان جارفا في بداية الحراك، وصار بالوسع التحكم فيه أمنيا وخنقه بالعاصمة وبالتالي إعطاء الانطباع بأن الحراك حقق مطالبه التي استجيب لها من خلال اعتقال رموز الفساد في سلطة بوتفليقة من دون رموز النظام الذي جاء ببوتفليقة وكأنما هذا النظام كان نزيها ونظيفا قبل دخول بوتفليقة القصر الجمهوري سنة 1999.
عواقب انهيار الأقطاب الكبرى للمعارضة
أخيرا لا يمكن التطرق لاحتمالات فشل الحراك الثوري الجزائري دونما الإشارة إلى الأثر السلبي الذي نجم عن الانهيارات الكبرى التي لحقت المعارضة السياسية التقليدية ذات الحضور التاريخي في المشهد التعددي السياسي في الجزائر منذ سنة 1989.
أحزاب وتيارات كانت تحمل مشاريع جدية وتشكل محور الاستقطاب السياسي الجديد الذي كان سيحدث التغيير المأمول ويقوض معالم النظام القديم بخطابه وممارساته، قبل أن يجهز عليها هذا النظام من خلال الاختراق الاستخباراتي ليفجرها من الداخل ويفقدها بالتالي قوة الدفع السياسي والطاقة التي كانت تعطيها لدينامكية التغيير في المجتمع، وها هو اليوم النظام ذاته يتضرر مما فعله هو بنفسه بتلك المعارضة القوية، حين لم يجدها كمحاور جدي يستند عليه لتحقيق السلم السياسي الحقيقي في البلاد، لكن ينبغي الاعتراف بأن الحراك هو أيضا تأثر بغياب هذه المعارضة التقليدية القوية ذات التواجد الحقيقي في الوسط الشعبي الجزائري، والتي كان من شأنها أن تجمعه على كلمة واحدة لإحداث التغيير الذي يبدو أن الجزائري سيظل يحلم به لفترة أخرى.

رأي اليوم

ثلاثاء, 10/09/2019 - 10:12