أردوغان عاريا من منظومة صعوده

محمد طعيمة

من سجين إلى “زعيم إقليمي” يناطح واشنطن ويغازل موسكو، تمتد أوهام أخطبوط حلمه القومي الطوراني من منبت أسلافه في وسط آسيا حتى قلبيْ أوروبا وأفريقيا غربا. ومن شواطئ قزوين شمالا حتى باب المندب جنوبا. واعدا بأن تكون بلده بين أكبر عشر قوى اقتصادية وسياسية الأكبر عام 2023، حين تكمل “الجمهورية التركية” عامها المئة.

مكانة لم يكتسبها رجب طيب أردوغان بقدراته الذاتية، ولم يخطط لها، هي ابنة منظومة متعددة الأجنحة، كان، فقط، أحد عناصرها، التي توافقت على أن يكون الواجهة، لقدراته الشعبوية، بينما باقي التروس تخدم عليه وتدفعه نحو سلم السلطة.

22 يونيو 2001، حلّت المحكمة الدستورية حزب الفضيلة، رابع تجارب نجم الدين أربكان، عرّاب تجربة الإسلاميين الترك الثانية، الأولى كانت لعدنان مندريس، في خمسينات القرن الماضي. وقتها أعلن جناح في الحزب المُنحلّ، وصف بـ”المجددين” استقلاله عن العرّاب، وتأسيس حزب جديد لاستعادة مجد الأسلاف عبر “عثمانية/ طورانية” جديدة. وكما كان الإسلام مطية الأجداد عبر خطف الخلافة، كان مطية الأحفاد، بصورة تقدّم نموذجا لا يتصادم مع الغرب، ويمكّن إسطنبول من قيادة العالميْن الإسلامي والعربي، وفق رؤية المنظّر، أحمد داود أوغلو، وكذا “مكة هي مدخلنا للاتحاد الأوروبي”، الحلم التركي العتيد.

ولد حزب العدالة والتنمية، وتروس منظومته أحمد داود أوغلو، عبدالله غول، علي باباجان. وجذبت طبيعة أفكارها رجل الأعمال عبدالله غول، رافع شعار المصالحة بين التراث الإسلامي والقيم العصرية. وقتها، كان أردوغان ممنوعا من العمل السياسي، لكن كان واضحا أن التروس توافقت على أدوارها.

داود أوغلو، منظر وعقل الحزب، داخليا وخارجيا، صائغ نظرية “صفر مشاكل” مع الجوار والقوى العظمى ومع الأكراد والعلويين. لم يخف شوفينيته، تباهى بعثمانية جديدة، وبأن “شرق أوسط جديد يولد، تركيا قائدته وراسمة ملامحه” كما قال في 27 أبريل 2012. بدأ وزيرا للخارجية عام 2009، ثم رئيسا للحزب ورئيسا للوزراء، 3 مرات. حقق للحزب أكبر حصاد برلماني في تاريخه، نوفمبر 2015، واستقال من حكومته الأخيرة بعد ستة أشهر، مايو 2016، عقب خلاف حاد مع أردوغان.

علي باباجان، المعادل الاقتصادي لأوغلو، خبير اقتصادي مرموق، راسم سياسات تركيا الاقتصادية حتى 2015. تولّى منصب وزير دولة لشؤون الاقتصاد والاتحاد الأوروبي، وكبير المفاوضين مع الاتحاد، ثم وزيرا للخارجية، فنائبا لرئيس الوزراء من 2009 إلى 2015.

عبدالله غول، من أسرة أربكانية، عيّنه العرّاب وزير دولة للشؤون الخارجية وقضايا العالم الإسلامي، ومتحدثا باسم الحكومة الائتلافية بين 1996 و1997. تولّى إعلان تأسيس العدالة والتنمية، أول رئيس للحزب وأول رئيس إسلامي للجمهورية العلمانية. ولخبراته المتراكمة وُصف بماكينة تنظيمية.

بالطبع، لم تكن مهام التروس جامعة مانعة، وبديهي أن عناصر أخرى، تفاوتت أدوارها. لكنها كلها لم تكن لتنجح دون رافعة فتح الله كولن، العرّاب البديل لـ”أربكان”، والأقوى عمليا بما لا يقارن. لم يبالغ أردوغان حين اتهمه بأنه يدير دولة موازية، متجاهلا أنها كانت محورية في صعوده هو وحزبه. يدير كولن شبكة ضخمة من المدارس والمراكز البحثية والشركات ووسائل الإعلام في خمس قارّات.. وحركة “خدمت” التي كانت، وما زالت، أخطبوطا محليا، وهي أنضج تجارب التأثير المجتمعي عبر الخدمات التي تقصّر فيها الدولة.

الرافعة المجتمعية، أدرك تأثيرها متابعو الشأن التركي، لكن أرشيفي أدهشني بأن هزيمة أردوغان في الانتخابات البلدية الأخيرة، توقعها هنري باركر، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة ليهاي الأميركية، خاصة أنقرة وإسطنبول، في تحليله للقسم التركي بإذاعة صوت أميركا، الأربعاء 1 يناير 2013، على خلفية انطلاق حملته لتصفية “خدمت”، رغم ترجيحه استمرار بنية الحزب بعناصرها الأساسية.

دشّن أردوغان حربه على رافعيه بعد أشهر من توليه أول حكومة، افتتحها بملاحقة منظومة كولن، وحولها دموية مع محاولة الانقلاب الفاشلة، 15 يوليو 2016، التي أصبح معلوما أنه تركها “تحاول” ليوظفها في الإجهاز على العرّاب، التي تؤكد الأرقام، وفق تقرير منظمة هيومان رايتس ووتش لعام 2019 على موقعها أنها فعلا دولة موازية، فعدد المفصولين على ذمة الارتباط بها تجاوز 130 ألفا، والمدانين بالانتماء إليها 34.241، من بين ما يناهز ربع مليون معتقل، غالبيتهم الساحقة تهمتهم موالاة كولن. والممتلكات المصادرة جاوزت، حسب وزير العمل التركي، أربعة مليارات دولار.

قبل باركر بستة أشهر، التقط الإسلامي ممتازير توركينيه، رئيس مجمع التاريخ التركي السابق، توجه أردوغان الدكتاتوري، محذرا في مقال له في يونيو 2012، من تفكك العدالة والتنمية، بـ”السعي لمركزة القوة فيه، عبر تغيير القوانين والنظام، لتتعطل المعارضة”، ومن أنه “حين لا يريد البعض تقاسم النفوذ يأتي الخطر، ويبدأ التنافس داخل الكتلة الواحدة”، مختتما مقاله بـ”أننا في بداية النهاية”.

ربما كان سبب تصفية “خدمت” إدراك مدى قوتها، وخشية تكرار سيناريو التصعيد مع منافسين لأردوغان، احتمال أصبح راجحا. لكن لا تفسير لتقزيم رفاق الدرب، وتدويرهم على كراسي موسيقية لثماني سنوات، سوى دماغ التمكين الوهمي الإخواني وجنون العظمة، كما وصفت نيويورك تايمز الرئيس التركي.

ورغم أن جلّهم لم يعارضه علنا، ما إن مرر أردوغان تعديلاته الدستورية، محوّلا نظام الحكم إلى رئاسي، ونفسه إلى سلطان عثماني، حتى طلب من باقي رافعيه.. غول وأوغلو وباباجان، ورفقاء بارزين غيرهم، التنحي سياسيا وحزبيا، لـ”تجديد دماء العدالة والتنمية”.

شجعت الهزيمة المُهينة في الانتخابات البلدية ومساعي أردوغان لوقفها، الناقمين، على إعلان وصول العدالة والتنمية للنهاية التي حذر منها توركينيه.

تقول المعارضة إن الحزب فقد مليون عضو خلال عام، ربما كانت تبالغ، لكن المؤكد أن استقالة غول وباباجان، في يونيو الماضي، وعزمهما مع وزراء سابقين تأسيس حزب جديد يستعيد ما أهدره السلطان، ثم إعلان داود أوغلو، 13 الشهر الجاري، عن توجه مستقل مماثل، سيخصم قطاعات وازنة من أردوغان، وفي الخلفية دائما، تداعيات حربه على كولن.

لن يكون السلطان فريسة سهلة، لكنه تعرّى، تقريبا، من ماكينة صعوده، ومن بريقه كحاكم ناجح اقتصاديا ونموذجا للإسلامي المعتدل. يسرّب الثنائي غول- باباجان أن 40 أو 50 نائباً سينتقلون، مع شرائح واسعة من المثقفين والسياسيين، من العدالة والتنمية لحزبهم المتوقع، وأيضا 20 نائبا من الحركة القومية. ويروّج المشروع الموازي، حزب أوغلو، أرقاما مقاربة يفترض أن تنضم له من العدالة والتنمية. أيا كانت صدقية “التسريبات”، بداهة أنها ستضم شخصيات لها ثقلها الوطني والدولي، وستصب ضد أردوغان.

انتهت فرص ترضية الغاضبين وتوسعت الحرب. لن تُجدي السلطان أرقام تجنيس الإخوان السوريين، 77 ألفا، وما زال يأمل في أتركة مئات الآلاف غيرهم، وفق الجزيرة نت في 3 مارس 2019، أو أن يكمل تجنيس الـ800 إخواني مصري، مع تأكيد قيادات منهم نيتها الترشح عن العدالة والتنمية في الانتخابات التشريعية المقبلة. وبالطبع لن تجديه السخرية من المتمردين: صنعت منهم وزراء ورئيس حكومة ورئيس جمهورية. رحلة حزبه وحدها تحدد من صنع من، لكنه جنون العظمة، أو “العرق التركي لما ينط” كما مقولة المصريين.

العربية نت

خميس, 19/09/2019 - 15:21