كيف اغتيلت الشورى الإسلامية؟!

الحسن مولاي علي

في العهد المبكر لتنزل الوحي في مكة المكرمة، يوم كان المسلمون الأوائل يعيشون أحلك الظروف في مواجهة الملأ من المكذبين الذين كانوا يحاصرونهم في أرزاقهم، ويضطهدونهم في قبائلهم، ويشردونهم في الملاجئ والمنافي؛ كانت إيات القرآن الكريم وسوره تسقي بذور الإيمان في نفوس تلك القلة المؤمنة، وتتعهدها بالتربية والتزكية، وتعلمها الصبر على البأساء والضراء، وتحدثها عما أعد الله لها من نعيم الآخرة؛

سور القرآن المكي وإياته، وفي تلك المرحلة من ضعف المسلمين الاوائل، وفقرهم وخوفهم من بطش الطغاة المتحكمين من كبراء قومهم، كانت تعد المسلمين، أيضا، بالنصر والتمكين والاستخلاف في الأرض والتمكين للدين الحق، بل وترسم لهم معالم المجتمع المسلم المنشود، ومجمل السمات التي يجب ان تطبعه، في كل زمان وكل مكان، وكانت من تلك السمات، حتى في تلك المرحلة، سمة الشورى في الامر.

بين خطوط وألوان وظلال ومقاسات إحدى اللوحات الفريدة التي رسمتها آيات القرآن الكريم لمنظومة السمات المميزة للمجتمع المسلم، تتقاطع الأسس الإيمانية، والضوابط السلوكية، والشعائر التعبدية، والشرائع العملية، وتتعانق في نسق بديع، تحت مظلة أخلاقية سابغة، فرشها قيم العفو والصفح والمغفرة، وسقفها مثل العزة والحزم والعزم، والكفاءة لمواجهة البغي والعدوان، ورد الباغي والمعتدي؛

دعونا تتوقف مع خطوط تلك اللوحة، ومدى التشابك بين سمات المجتمع الإسلامي كما رسمتها آيات القرآن الكريم، قال تعالى:
{... وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ، والذين اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقون، والَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ}!!

أبرز ما يلفت انتباه المتأمل في تفاصيل هذه اللوحة البديعة، ليس اشتمالها على الشورى في الأمر، كسمة لازمة من سمات المجتمع المسلم، ولا حتي في وضعها، من حيث السباق واللحاق، في اللوحة، بين ركني الصلاة والزكاة؛ بل هو تسمية السورة القرآنية التي رسمت آياتها هذه اللوحة المتفردة الشاملة، تسميتها سورة الشورى! أجل، الشورى؛ وليس الصلاة أو الزكاة أو الإيمان، مثلا.!!

ولما كانت تلك هي منزلة الشورى بين سمات المجتمع الإسلامي، وقد حددها القرآن العظيم منذ العهد المكي؛ فقد تواطأت السنة القولية والفعلية، والسيرة العطرة، على أنها كانت ممارسة دائمة للنبي صلى الله عليه وسلم، في أهل بيته وأصحابه، من الرجال والنساء،
وفي السلم والحرب، وكان يلتزم مخرجاتها التزاما، ولو كانت على خلاف ما يرى.

في يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان بين عدوتي بدر، وقد فرض المشركون، على القلة المؤمنة، معركة غير متكافئة، في ذلك الموقف الحرج، مارس القائد النبي الشورى على أوسع نطاق، فكانت استفتاء حقيقيا لقادة العشائر والمجموعات الحاضرة، واولي الامر من المهاجرين والانصار؛ وقد نزل على رأيهم في كل ما تناولته الاستشارة: الموقع، إدارة المعركة، موارد المياه، العريش وحرسه، والراحة المعدة ببابه.

في فتح الحديبية، عندما أحصر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، عن دخول مكة، تتداعى المحرمون إلى الشجرة لبيعة الرضوان التي أثنى الله عليها وعلى أصحابها، واعتبرها القرآن بيعة مع الله، ثم قضى صلح الحديبية بعودة المسلمين إلى يثرب، في انتظار العام القادم: تباطأ الصحابة في تنفيذ أمر الرسول بالنحر والحلق والتحلل، فاغتم لذلك، فكان الحل في شورى زوجه بان يبدأ هو ما أمر به، فابتدروا البدن والمحالق.

في الإعداد لمعركة أحد، كان من رأي النبي صلى الله عليه وسلم، وبعض أصحابه، أن يتحصن المسلمون بالمدينة، فإذا دهمها العدو، قاتله الرجال والنساء والاطفال، بما تيسر، في الازقة والطرقات وعلى أسطح المنازل؛ ولقد عزز صلى الله عليه وسلم، رأيه بعرض إشارات من رؤيا رآها في منامه، ومن تلك الإشارات بقر يذبح، تأوله (ص) بالرزء في أحد قراباته، ومنها درع حصين أدخل يده فيه، فتأولها المدينة.

لكن حماسة المسلمين الشباب، وخاصة أولئك الذين تخلفوا عن معركة بدر، شكلت الرأي الغالب، بملاقاة قريش خارج المدينة؛ فما كان من النبي(ص) إلا أن اتخذ القرار بناء على رأي الاغلبية، وبدأ الإعداد للتنفيذ، دون إبطاء؛ ثم ندم الشباب على أنهم استكرهوا الرسول القائد على الخروج، فطالبوه، وقد أخذ أهبته، بالعودة عن القرار القائم على الشورى، فرفض رفضا باتا، ومضى إلى المعركة عند أحد.

ونستمر في استعراض مزيد من الوقائع التي نزل فيها النبي الموحى إليه، على مشورة أصحابه، فهي تملأ الصحف والمجلدات؛ منها حفر الخندق حول المدينة، لصد عدوان الاحزاب، بناء على شورى سلمان الفارسي؛ ومنها العقوبة القصوى بحق مقاتلة بني قريظة، نزولا على حكم حليفهم سعد بن معاذ، بسبب نقض العهد الموثق لمجتمع المدينة، واقتراف الخيانة الجماعية العظمى، بالتواطؤ مع العدو.

تلك هي الشورى الإسلامية في الأمر العام؛ وقد أرادها الله (تشريعا، لا قدرا مقدورا) سمة مميزة بارزة في كل مجتمع مسلم؛ وتلك هي مكانتها التي حددتها آيات القرآن الكريم، فوضعتها بين فريضتين وركنين من اركان الدين، قبل ان يقوم للإسلام مجتمع؛ وتلك هي السنة النبوية القولية والفعلية بالممارسة النبوية ها في كل شأن عام، والتزامه الدائم، بمخرجاتها، في مختلف الأوضاع ولو خالفت رأيه الشريف، حتى توفاه الله.

بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم، زلزل المسلمون زلزالا شديدا، وفي مغبة الزلزال ماتت الشورى موتا، وغيبت تغييبا، فلم تقم لها قائمة من بعد ذلك؛ وهكذا كانت السقيفة فلتة وقى الله شرها، وكانت حروب الردة طاحونة لجيل الحفاظ والسابقين، ثم جاء الاستخلاف بالتوصية، ثم تسلل حنجر الغدر إلى الخليفة وهو في محرابه، فوكل بالأمر ستة، عبث الطلقاء وأبناؤهم بخليفتهم، واستبدوا بالأمر دونه.

في ظل هيمنة أبناء الطلقاء، على الخلافة، أعادوا طريد النبي(ص) الحكم بن هشام، الذي حرم عليه المدينة ونفاه إلى الطائف، كما قاموا بنفي الصحابي الصالح وأصدق الناس لهجة ابي ذر الغفاري، إلى صحراء الربذة، ليموت طريدا، في البيداء، ثم طفقوا يؤججون الصراع العشائري داخل قريش، والمنافسة
بين القبائل القيسية والمضرية، ويحركون الثورات ويحيكون المؤامرات، في شتى الأقاليم المفتوحة.

قتل ثوار الاقاليم الخليفة، وبايعوا لخليفة آخر، تمرد عليه جند الشام، ولبسوا قميص الخليفة القتيل، واتهمو خلفه بحماية قتلته، فاندلعت الفتنة الكبرى، وسالت الدماء الزكية انهارا، وتفرق الناس في الدين أيدى سبأ، وباتوا شيعا متناحرة، لغتها السلاح، لتتكرس في النهاية قيصرية كريهة، وكسروية مقيتة، أسستا لحالة استبداد وإكراه وجبرية، استمرت عبر الزمن، وكتبت مجمل سطور التاريخ السياسي للأمة.

تحت حكم الجبر والإكراه، اخترع الذين اغتالوا الشورى وظائف ومسالك التبرير، حيث كانت خطيئات ومزالق ومفاسد السلطان المتغلب الذي فرض نفسه على الناس بالإكراه، بأمس الحاجة إلى تبريرات محسوبة على الدين؛ وذلك ما تكفل به ندماء البلاط وأعوان السلطان من الرواة الوضاعين والمتفيهقين المفتين، والشعراء والمغنين، ممن كانوا يزينون لكل طاغية سوء عمله قيراه حسنا،

مع تناسخ الخلفاء والأمراء، والتحولات والتقلبات الدامية، تناقل من دشنوا عصر التدوين، موضوعات المبررين، بلا مراعاة لأبسط القواعد المبسوطة في القرآن والسنة، فجعلوا السلطان-مهما كان-ظل الله في الأرض، وجعلوا طاعته-مهما كان-من طاعة الله، وجعلوا مزاجه ورغباته جزءا من شرع الله، واعتبروا الغلبة مبررا لأخذ البيعة له بالإكراه، وأدخلوا مصطلح التأمر، وأوجبوا لكل متأمر الطاعة، ولو كان "عبدا حبشيا كأن رأسه زبيبة" كما زعم من ينسبون تلك البذاءات إلى من زكى الله خلقه العظيم.

خميس, 26/09/2019 - 13:03