البيئة التعليمية تفرض التناغم ضمن معادلة الكم والكيف؟

عبيــد إميجن

على الرغم من انخفاض الالتحاق بالمدارس النظامية بشكل حاد غداة الاستقلال فإن أغلب مُتصدري هذه المدرسـة يجهـد نفسـه للإشادة بجدارتها التربويــة مستحضرا مجمل المواقف الكادحة التي مرَ بها من أجل التمدْرُسْ أو محاولاً تذكُـر اجهاد المدرسين انفسهم فـي مقاربات لـم تكن مألوفة لديه، ومفتخرا في الوقت ذاته بريادة الجيل الأول في التنمية والتطور الاداري والتخفيف من حدة الأمية والتخلف على الرغم من شُح موارد الدولـة إبان قيامها. وفي الواقـع، تظل الجدلية سيدة الموقف في موريتانيا؛ كلما تجدد الحديثُ حـول مسألـة التعليــم الذي ظل الى وقت قريب اختصاصاً تقليدياً للدولة على عكس التعليم "الْمِحْظَرِي" أو الأصلي.

ومع دخولِ فاعلين جدد، خلال العقـد الأخيـر من القرن العشرين اتسعَ الاستثمار تدريجيا في التعليـم ليشمل الخواص وربما هيئات المجتمع مع المدني؛ ولــم يعــد ولوج المدارس والتفوق في الدراسـة والوصول الى الكلياتِ او المعاهد المهنية مربوطاً بمواردِ الحُكوماتِ واحتياجاتها وهي ظاهــرة لا تخصُ بلادنا لوحدها ففي جميـع الدول النامية، دون استثناء، تنتعش المدارس والبرامج التعليمية البديلة والتـي تختلف مناهج تقييمها كماً وكيفاً، فهل البيئة التعليمية لدينا قادرة على تجاوز كفتيْ هذه المُعادلة؟ 

بنظْـرةِ فاحصـة، فإن المقررات المدرسيـة والتي هي من اختصاص الدولـة ومؤسساتها كانت وإلى وقت قريب جزء من العوامل المُغذيـة لنمو انعدام الاستقـرار الاجتماعي ؛ كما أن الاصلاحات التربويـة تُزامن دائما التوترات الثقافية والشعور باللايقين داخل أوساط التلاميذ وأولياء أمورهم نظرا لعوامل سياسيـة واجتماعية عديدة مــن بينها "لغـة التدريس"، و"هوية المدرسـة الموريتانية"، وفيما عدى ذلك فإن الجهود الحكومية أدت بالفعل في وقت من الأوقات الى تحسين البيئة التعليمية (تطوير البنية التحتية للمدارس ، وتوظيف المعلمين، وإعادة تطوير المقاربات، وما إلى ذلك) وهكذا انتقل عدد التــلاميذ في الجمهورية من 11 ألف تلميـذٍ سنة 1960 الـى 655261 خلال العام 2018، كما انتقل السُكان خلال نفس الحقبة من 900 ألف نسمة الى أربعة ملايين حسب آخـر احصاء للسكان والمساكن، وغيرها من الاتجاهات الرئيسية المرتبطـة بأداء النظام التعليمي وقدرته على التغلب على الشروط والاحتياجات الطارئة والتي لم يُخطط لها مؤسسـو للمدرسـة الموريتانية كاكتظاظُ الأقسام والتسرب المدرسي ومعضلة تعليـم البَنات، وانتشار مؤسسات التعليم الخصوصي المحلي منها والأجنبي فهذه لوحدها ضمتْ على المستوى الابتدائي 158000 تلميــذا خلال السنة الدراسية الماضيـة؛ لكن هذه المؤشرات الكميـة لا تتضمن تحسين نوعية التعليم الخاص والعام.

وهنا نؤكدُ أيضاً، على أن مناطق كثيـرة من بلادنا تشهد تفاوتاً هائلا ازاء ظروف وفرص التعليـم اللائـق والمناسب كما بات تعليم الفقراء القاطنين في المناطق الأكثر عُزلةً وهشاشة تحديا مزعجا بالنسبة للمعنيين بتطوير المنظومة التعليمية في المقام الأول وذلك لأسباب من بينها ضعف النفقات العمومية الموجهة الى التعليم الابتدائي، وقلة الحوافز المخصصة للمعلمين من جهة أو لتعـذر اقناع الأهالي بجدوائية نوعية ومقاصد عملية التعلم والتعليم برمته وفي جميع الحالات فإن حقاَ أساسيا كان يجب على الجمهورية الاسلامية الموريتانية ان تكفله لأطفالها تعذر تحقيقه لفتـرة طويلة.

تظهرُ الأوراق المُقدمـة خلال تقييم الخبراء للمرحلة الثانية من البرنامج الوطني لتطوير قطاع التعليم في موريتانيا سنة 2015 تزايـد الارتجالية ان لم نقل العشوائية وانعدام التخطيط في مجال المقاربات التربوية والتي ان اظهرت نجاحها مرة فقد برهنت على اخفاقاتها مرات، وخاصـة إثـر اصلاح نهاية القرن العشريـن والذي شهد هـو الآخر اهتماماً غير مسبوق داخل قطاع التهذيب الوطني وخاصـة عندما ربط النظام السياسي الدخول للقرن الحادي والعشرين بتحقيق شِعاره القاضي بإنجاز "التعليم للجميع"، وبالطبــع فإن هذه المقاربة كانت كفيلة بإطـلاق سباق جمـع الأعداد الاجمالية (عدد المدارس، عدد التلاميذ واعداد المعلمين ) وغيرها من المؤشرات الكمية التي ظلت مطلوبة بشـدة للبرهنة لدى المؤسسات الدولية و الأممية على مدى انتشار التعليـم أفقيا داخل الأوساط الشعبيـة وبالتالي تم تفريـغ العملية التربوية من قيمتها ومقاصدها السامية لتُكرس التساهــل المخل حيال تطلعات الأجيال المستقبلية وتفضيــل ارضاء جهات العون والتمويل بشكل يؤثر على نجاعـة العملية التربوية.   

في الوقت الراهن سيكون رئيس الجمهورية قــد شارف على المائة يوم من تسلمه الحُكم وهي فتـرة وجيزة الى ابعد الحــدود لكنها تضمنت تعهدات بإخراج التعليـم من "غرفة الانعاش" لتدُب فيه الحياة من جديد، وكمتابعيــن طامعين في جعـل التعليــم من أولى الأولويات لدى الحكـومة الحالية والتي تعهدت برفع النفاق عليه لتصل 20 بالمائة من الميزانية العامة سنويا، وبشكل أكثـر نجاعـة فإن مسألة التعليــم يجب ان يجري التفاهـم بين الأطراف السياسية والفاعلين في هذا القطاع الى تحويلها إلى مخطط استراتيجي طويل الأمــد.

إن قطــع الطريق على الارتجالية كما اسلفنا يوجب اكتتاب كـادر خاص من المعلمين الأكفاء مع ربط هذا الكــادر بالأوساط الشعبية الأكثــر فقـرا في المجتمع والعمل جديا على تحفيز الجميع على "التشارك" خلال العملية برمتها حتى لا تبقى الارادات مجرد شعارات مرفوعة، وأمنيات طيبة، تنتظر التطبيق والترجمة على أرض الواقع، وإلا كنا أشبه بمن "يحرث في البحر".

طبعاً، لا أحد سيطلب من الحكومة أن "تحلب ناقتها في الإضاءة" ولكنه سيكون مريحا لو رأيناها تسخــر الامكانات الكمية الموجودة اصلا وفق منطور شامل ومتكامل في سبيل النهوض بالمدرسـة والتعليم كما جرى الاعلان عـن ذلك في البرنامج الحكومي المُجاز باعتباره يعطي العناية والاهتمام الضبطي الصارم للتعليــم بعيــدا عن الاصرار السيزيفي الذي لا يستفيد صاحبه من التجارب.  

اجمالا، يجب التفكيـر مليا في اعادة النظـر بشأن الاجراءات الجافة والأساليب البالية والتوظيف السياسي المعتاد تسخير التعليــم من أجل قواعدها المربكة، فالتعليم الذي هو عماد نهضة الأمم يجب ان ينظر خلال تطويره الى حاجيات الشعب ومستقبله القريب والبعيـد، وفي هذا الصدد يصدقنا قول "بسمارك" في خطابـه للأمة الألمانية في أواخر القرن التاســع عشـر حين يقول : "للحفاظ على الأمة، وحمايتها، والنهوض بها وتقدمها أعطني جيشاً من المتعلمين لا جيشا من المُحاربين"، ونحــن في موريتانيا أحق بأن يكون لنا تعليمنا المتميز، والذي نُفاخر به الأمم لم لا؟ وكيف يحصل ذلك؟ 

الأمـر بسيط، فالدولـة الموريتانية التي ورث التعليــم النظامي عن الاستعمار الفرنسي حققت حتى الآن نقلة نوعية هامـة كان من شأنها اجراء اصلاحات جوهرية على صعيـد المدرسـة التي كانت مقتصرة على أبناء الأعيان وعلية المجتمع القبلي وبعض المحظوظين لدى السلطات الاستعماريـة تحولت خلال العقود اللاحقة على الاستقلال الوطني الى مدرسة شبه ديمقراطية وفي مرحلة لاحقة انتقل التعليم من الكلاسيكية الادارية المغلقـة الى التعليم الشعبـي المفتوح والشامل فدخلنا في معمعـة التحصيل الكمي على حساب الكيف والاحتياجات التنموية والعلمية المخطط لها لفائـدة الدولة والمجتمع، إن هذه المقاربـة التي تتوارثها الأنظمة السياسية رغم المجهودات المبذولـة من جميع الأطراف لم تحقق النقلة النوعيـة ولم تخرج الكفاءات الوطنية المبدعة والمفكرين والعلماء بما فيه الكفايـة، ما يفســر كيف تظل الأنظار مشدودة الى التعليم الاصلي باعتباره رافعـة نحو الريادة على المستوى الاقليمي والعربي.  

لهذه الأسباب، أجـد ان النوايا والتعهدات التي أطلقها الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني ستتحول لاحقا الى معركــة من اجل تخليص التعليــم الابتدائي من الأوحال الكمية والتوظيف السياسي وغيرها من العـوالق التي أبقته الأنظمة السياسية المتلاحقـة حبيسا لها، ولقد تعددت الاتجاهات والآراء في هذا الصدد؛ مما يجعلني احشر نفسي في هذا المجال المعقد والمتشابك توقا مني في تقديم المقترحات والرؤى التي من شأنها ان تساهم في تحشيد الدعم لإصـلاح التعليم وذلك باختصار من خلال المحاور الآتيـة : 

1. ضرورة تنظيم وضبط المدارس الخاصـة ـالتي تتوسع توسعا أفقيا سريعاـ وفق اجراءات متضافـرة ومتسقة بما يمكنها من جلب مُدرسين مؤهلين تربويا، و تهيئة البنية التحتية الملائمة، كما يجب مراعاة جوانب النجاح على مستوى المناهج الدراسية في بعض هـذه المؤسسات.

2. لا بد من الإقرار بمكانـة المعلم، تربويا وتعليميا واجتماعيا، لذا فمن الضروري احترام المعلم وتقديره واعطاءه الصلاحيات التي تساعده وتحفزه على أداء مهمته في إخراج جيلٍ متعلمٍ ، مثقفٍ ومتحلٍ بأفضل القيم الاخلاقية و المبادئ الوطنية.

3. اتباع خطوات جادة لبناء الثقة بين المعلم ومكاتب أولياء التلاميـذ بعدما تحولت الأخيـرة الى مُجرد نوادٍ تضـم وجهاء "الكارْتييه" بحيث ترتبط بالإدارة المحلية وتعرض عليها خدماتها المختلفة اكثر من تركيز الصلة بإدارة المدارس والمعلمين، فهذه المكاتب بحاجــة ماسـة الى ضخ دماء جديدة تكون متحمسة للإصلاح وتطـوير الأدوار والمسؤوليات التي تتيح لها لعب ادوار رقابيـة تكمل الجهد الإداري والحكومي ويوسـ‘ من شركاء خطة اصلاح التعليم في بلادنا لتشمل أولياء الأمور واعضاء المجتمعات المحلية المستفيدة من الخدمة التعليمة.

على وجه الاجمال، إن تحديث التعليم الأساسي وتطوير مخرجاته يتطلب معالجة الاختلالات والتشوهات الملاحظة على صعيد منظومته بما يمكن الأمـة الموريتانية من تحقيق القفزات والتحول الممكنة على الصعد الاقليمية والدولية لو ركزت استثماراتها على العنصر البشري والاقتصاد المعرفي، ومن المُثير للإعجاب أكثر اذا استطاعت موريتانيا الاهتـداء الى الاستفادة من احدى التجارب الدولية النموذجية من اجل تحقيـق الأهداف المتوقعة والمنشودة منها.

ثلاثاء, 15/10/2019 - 09:37