إنه خطاب العصر الذي لا مناص من سماعه

محمد فال ولد بلال

- تصاعد الولاءات الضيقة والخطابات الفئوية والشرائحية ليس من صنع الفئات والشرائح والجماعات. ولا يلام به فلان ولا علان.. إنه من نتائج العولمة وعصر ما بعد الحداثة... 
1- لا يخفى على أحد أنّ التفاعلات والتغيرات المذهلة التي هزت العالم منذ تسعينات القرن الماضي أدت بالمُجمل إلى زعزعة المجتمعات وخلخلة "الدولة- الوطنية" (l'Etat-Nation). وفتحت الباب واسعا أمام صخب ونشاط الهويّات الصغيرة في جميع أنحاء العالم. وعكس ما كان متوقعا من ظهور "إنسان معَولم" أو "إنسان راقي" كما يقول "فوكوياما"، ظهر إنسان صغير وطائفي وقبلي وعشائري مستغرق في الجماعة الأولية التي نشأ فيها وانتمى إليها.
 وموريتانيا ليست استثناء من العالم. كنا نتوقع أن رفع العلم الوطني وتحية النشيد وبناء مؤسسات الدولة من رئيس وحكومة وبرلمان وإدارة وجيش ومدارس وإذاعة وتلفزيون وصك عملة وطنية وتأميم شركات أجنبية وبناء طرق ومواصلات تربط أنحاء الوطن ببعضها البعض…ستفتح الآفاق أمامنا لنفكر في أنفسنا كمواطنين "موريتانيين". ولكن لم يظهر ذلك المواطن الموريتاني المتجاوز لذاته الخاصة الذي ينسى فئته وشريحته وعشيرته وجهته…ويحتضن الوطن بأسره. بل على العكس بدأ صوت الفئوية والشرائحية وضجيج الخصوصيات يتصاعد من كل جهة ومكان. ظهر الفرد البيظاني، والكوري، والشمالي، والجنوبي، وأخوك الحرطاني، وأخوك لمْعَلم، إلخ.. 
    2- وهذا الخطاب لا يُلام به فرد ولا حزب ولا جماعة.. ولا تقشعر منه الجلود في سياق عالمنا اليوم.. إنه خطاب العصر الذي لا مناص من سماعه! شئنا أم أبينا.. لا بُد لنا من التعامل مع الولاءات الضيقة. أدري أننا - شعبا وحكومة - لم نشأ لفترة طويلة أن نتكلم عن الفئات الاجتماعية والأعراق. اعتبرناها من المحظورات التي يتعرض من يقترب منها إلى اللوم والتوبيخ بل أحيانا إلى التنكيل. كنا نقول إن كل شيء على ما يرام، وإن الناس ليسوا فئات أو شرائح أو مناطق أو مصالح، وإنما كلٌّ واحد وموحّد.. شعب واحد، ولغة واحدة، ودين واحد، ومذهب واحد، إلخ.. وهذا صحيح، ولكن مثل هذا الخطاب، وإن كان محل إجماع، لا يكفي لمواجهة ظروف المعيشة اليومية ومعالجة الفوارق والمظالم والمطالب إذا لم يترجم في سياسات وإجراءات عملية ناجعة.. إننا اليوم أمام واقع يفرض التعامل مع التنوع والتعدد الفئوي والعرقي بما يقتضيه العصر من آليات وأحكام ولغة،،
3- دعونا نتكلم بصراحة عن الظلم والغبن والتهميش والإقصاء وحقوق الإنسان وغير ذلك من أدبيات العولمة بما يقتضيه الحال من سعة صدر وفهم ومسؤولية ونضج..دعونا نتحدث عن حقوق الفئات والشرائح بأسلوب مدني رفيع بعيدا عن امتهان مشاعر الناس ومهاجمة رموزهم وتسفيه شعائرهم واحتقار معتقداتهم. وفي سياق حواراتنا ومناقشاتنا، يتعيّن الانتباه إلى المحاذير والمخاطر الماثلة على الطريق كي لا نخطئ في تقييم المسألة أومقاربة الإشكاليات بما يجعلنا نعالج منكرا فنتورط في منكر أشد منه وأعظم. وهنا يكمن دور النخبة الواعية من كل الفئات والشرائح التي بإمكانها تطويق الحركات المطلبية وتأطيرها وترويضها وتهذيبها ودرء مخاطرها وشرورها عن الوحدة الوطنية، حتى لا تتطور إلى احتجاجات وسخط وكراهية… وسبيلا إلى ذلك، أعتقد أن الاعتراف بكل الفاعلين ومحاورتهم وجرّهم إلى دائرة القانون وساحة العمل الشفاف سيكون أفضل وأكثر أيجابية من موقف الشيطنة والرفض!

سبت, 22/02/2020 - 23:25