إلى أين يسير العالم؟

سلام برجاق

نستيقظ يومياً مُحَمَّلين بأحزان وذكريات الأيام الماضية، نخرج من أسرّتنا الدافئة لنواجه ذلك العالَم البارد، نتوجه لأماكن عملنا أو لمقاعد دراستنا نشتم كل من يُعكّر صفوَ بالِنا، وفي نهاية الأمر نعود إلى منازِلنا مُثقَلين بكل ما مررنا به ثم نُلقي بأجسادنا المُرهقة على السرير الدافئ مرة أُخرى لنعيد تكرار تلك الدائرة الروتينيّة، ولكنّنا لم نتخيل يوماً أنّ تلك الحياة العادية التي نعيشها بتفاصيلها يوماً بعد يوم، التي سئمنا من روتينها المُمل المُتعِب للروح قبل الجسد قد تختفي في يومٍ من الأيام وقد تتغيّر في غمضة عين ومن دون أي سابق إنذار.

هذا ما حدث لنا في هذا العصر وقد حدث للكثير من الشعوب السابقة، الحياة التي يتأفّف منها الجميع قد زالت وتغيّرت بسبب مرضٍ عجيب أو بسبب فايروسٍ يُصيب البشر في عُقر دارهم، يُداهِم مَوَاطِن راحتهم ليقلب الدُنيا رأساً على عقب، وربما أكبر خطرٍ يكمن في هذه الكائنات الحيّة الدقيقة هو أنّ أثرها لا يطال الجانِب الصِحيّ للمريض فقط بل تطال أنيابها الغير مرئية الحياة الأُسريّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة ليتعدّى الأمر من تدمير حياة المريض ليصل إلى تدمير نسيج المجتمع المتكامل بعناصره التي تدعم استمراريته.

قد شهدت القرون الماضية العديد من الأوبئة التي تحوَّلت لاحقاً إلى جائحة، والتي يجب أن نُفرّق بينهما هنا، فالوباء يُدعى عالمياً (Epidemic) أي المرض المُنتشر فوق بقعة جغرافيّة ما، بينما الجائحة تُدعى (Pandemic) أي المُصيبة والبلاء على نحوٍ واسع. ما نَمُرُّ به اليوم يُشابه إلى حَدٍّ ما الأحداث التي حصلت في القرون السابقة، والانقسامات والافتراضات التي نشهدها اليوم ما هي إلا مثال حَيّ على ما شهده العالَم بالماضي، ففي الوقت الحالي نرى أنّ بعض الأشخاص يرونَ أنّ هذه الأمراض ما هي إلا عقابٌ وسخطٌ من الله على ما اقترفه البشر من أخطاء، أمّا البعض الآخر فيؤمنون بالنظريّة المبنيّة على أنّ هذه الأمراض ما هي إلا نِتاج خطط دول لتدمير دولٍ أُخرى، أي بمعنى آخر "حرب بيولوجية" أو "حرب شعواء" تقودها دول عظيمة لتحقيق مآربَ دفينة.

يذكر الكاتب جوزيف بيرن في كتابه المُستَحِق للقراءة "الموت الأسود"، الحياة اليومية خلال اجتياح مرض الطاعون للعالَم الأوروبي والعالَم الإسلامي، الأساليب التي اتّبعها الناس للوقاية من مرض الطاعون، وعن الأساليب الطبيّة في ذاك الوقت، وعن تداعيات هذا المرض على الحياة الاقتصاديّة والسياسيّة بشكل عام، ولكن أكثر ما يستدعي الوقوف عليه هو الإجراءات والسياسات التي اتبعتها بعض الدول للوقاية من المرض والتي أراها حسب وجهة نظري أشدّ تعسفاً من وقتنا الحالي. فقد ذكر بيرن أنّ عام 1557 عُومل ضحايا الطاعون الهولنديّون معاملة قاسية حيث كان يتم تخيير أفراد الأُسرة عندما يفتك المرض بأحدهم، إما البقاء أو المغادرة، إذا أرادوا البقاء مع الضحيّة كانت السلطات تقوم بلف المنزل بأكمله بسلسلة مغلقة بقفل وسياج وتُعلِّم البيت بحزمة من القش على الباب.

كما ذكر على لسانه أنّ في لاهاي كانوا يقومون بتحديد المنازل بحرفيّ "PP" بمعنى "أنّ الطاعون كان هنا". ورغم هذه الاختلافات إلا أنني وجدت التشابه بين زمننا والزمن القديم في الاقتباس الذي استعان به بيرن من كتاب "صوت الرب الرهيب" للكاتب توماس فنسنت، الذي وضّح فيه تلك الصورة البائسة التي وصلت لها لندن عندما فتك بها الطاعون، وقال في الاقتباس: "ثمة عزلة موحشة في شوارع لندن.. الدكاكين مغلقة الآن، والناس نادرون وقلّة قليلة تتجوّل لدرجة نموّ العشب البريّ في بعض الأماكن، وبخاصة داخل الأسوار....".

تلك التشابهات التي تجعلنا نُكرر أنّ التاريخ يعيد نفسه، وتلك الاختلافات التي تجعلنا نحمد الله أننا لم نُعايش تلك القرون ما هي إلا دلائل على أنّ الزمان واحد، رغم اختلافاته ومرور أيامه إلا أنّه يُظهِر أنّ تجارب السابقين ليست ببعيدة عن ما يَمرّ به العالَم الحديث رغم تطوره المتسارع، وأنّ ما اعتدنا عليه ليس دائم وأنّ كل شيء قد يؤول إلى زوالٍ مؤقت أو دائم، فالفَطِن هو من يلاحظ هذه الاختلافات ويعتبر من أخطاء السابقين.

فالمقارنة هنا بين الماضي والحاضر لم تأتي من فراغ بل لنرى أنّ طبيعة الإنسان لم تتغير منذ عهود، وأنّ الإنسان لم يتعظ ولن يتعلّم من أخطائه، بل يمشي متكبّراً ناسياً فضائل الله عليه، يركض مع الأيام وكأنّه يريد أن يسابقها ويسبقها، ليأتي الزمان مُحمَّلاً بدروس الماضي علَّ وعسى أنّ يتعظ هذا الإنسان، فالماضي والتاريخ يقترنان بالحاضر بشكلٍ أو بآخر. تتكرر الأيام والأحداث كل مرّة لنتفكّر ونتساءل ونضع أمام أعيننا سؤالين مُهمَين، ماذا أعددنا لغدٍ؟ وإلى أين يسير العالَم؟

 

نقلا عن الجزيرة نت

ثلاثاء, 31/03/2020 - 22:19