الدرس المفيد من جائحة كوفيد

محمد محمود أحمد قاظي

أحجم دائما عن الكتابة في الشأن العام احتراما للتخصص, باعتبار أن للقلم و السياسة فرسانهم, و للتكنوقراط ميدانهم, إلا أن حجم جائحة كوفيد 19 و تأثيرها اليوم و آثارها المتوقعة غدا على العالم بأسره تحتم على كل منا أن ينفق من سعته, و يتبرع بما يملك, و الفكر بضاعة بني نبهان اليوم, إلا تكن إبل فمعزى على رأي الملك الضليل.

إن غبار معركة كوفيد لم ينجلي بعد و من السابق لأوانه الآن حصر تأثيرها, و لا يزال عداد الضحايا أسرع من عداد الكهرباء في مصنع عتيد, حيث أشرف عدد الموتى اليوم (9 ابريل 2020) على تسعين ألف بعد شهرين من انطلاق شرارة الفيروس, أي معدل ألف و خمسمائة نفس في اليوم, أما المصابون فقد تجاوزا عتبة المليون و النصف.

قد لا يكون عدد الموتى مهولا بالمعنى الاحصائي البحت مقارنة بالعديد من الكوارث, رغم مرارة فقد الأنفس مهما كان العدد, و ذلك أن المعدل اليومي المذكور ليس الا شطر ضحايا حوادث الطرق يوميا حسب احصائيات الأمم المتحدة, و أقل من ثلث ضحايا تسونامي المحيط الهندي في يومين سنة 2004.

لكن الجانب الكارثي لهذه الجائحة يتمثل في أعداد المصابين المتكاثر بوتيرة كشفت عوارالمنظومات الصحية في أكثر البلدان تقدما, و فضحت أخلاق حضارة الفرد المتوحش, ففرت أمم من عجائزها لتقدمهم قربانا لشبح الكوفيد, و أرادت ذئاب بشرية أن تطبق سياسة مناعة القطيع فكانت أول ضحاياه, و هذه دول تفر من شقيقاتها في هذا الظرف الصحي العصيب حتى لجأت الى السطو و القرصنة.

أضف الى ذلك بوادر الأزمة الاقتصادية التي بدأت نذرها متمثلة في تأثر سلاسل التموين ((supply chain, فهذا الكيان الصهيوني مثلا يستغيث للحصول على طبق من البيض! و ان كان التأثير الآن يقتصر على المواد قصيرة أجل التخزين, فانه و لاشك سيطال المواد طويلة الأجل مثل الحبوب حالما ينفد مخزون البلدان غير المنتجة لها. كما ستتأثر المشاريع الكبرى و الشركات الانتاجية التي تستورد مستهلكاتها و قطع غيارها من البلدان التي ضربتها الجائحة في الصميم.

أما على مستوى الاقتصاد الكلي فيجمع معظم الخبراء على أن العالم سيتعرض على مدى العامين المقبيلن لأزمة اقتصادية شبيه بتلك التي حصلت سنة 1929 متمثلة في هبوط حاد في الانتاج و مستوى عالي من البطالة, و عليه فان ضحايا الجوع سيكونون أضعاف ضحايا كوفيد, تعددت الأسباب و الموت واحد.

و بالمختصر فان كوفيد مسعر أزمة عالمية, صحية, أخلاقية و أقتصادية, الا أنه من المحن تأتي المنح, و الشعوب الأبية الواعية هي التي تحول المخاطر فرصا اذا توافرت لديها الارادة الحازمة و الادارة الراشدة.

ان الشعوب التي سلمت من هذه الجائحة أو تكاد تخرج منها هي تلك التي ركزت سنين عددا على قطاع الصحة مثل كوبا, او التي طغت ثقافتها الاجتماعية على الفردية المتوحشة مثل الصين حيث أفرخ كوفيد بادئ الأمر. و قد أبان شعبنا بفطرته السليمة و دينه الحنيف و كرمه المعهود عن كثير من التكاتف و التراحم و أدارت قيادته الأزمة بقدر كبير من النجاح, مهما شابه من نواقص لا يخلو منها عمل بشري, فمن لا يشكر الناس لا يشكر الله, و أعوذ بالله من بطر الحق و غمط الناس.

لكن الاستجابة قصيرة المدى يجب أن تواكبها استجابة تنموية على المدى الطويل تستند على مقاربات علمية و تطبيق منهجية الدروس المستفادة ( (lessons learnedمن نجاح البعض و اخفاق الآخر.

قد تكون شركات الاستخراج أول الضحايا مثل شركة سنيم و تازيازت و شركات النفط, و بارقة ذلك الأولى جاءت مع اعلان تأخير انتاج الغاز, و كذلك الشركات الخدمية الكبرى كالكهرباء و الماء, حيث يمتد التأثر الى انخفاض الطلب على المواد الأولية, توقف مشاريع التوسعة, تأثر مصادراستيراد قطع الغيار, قلة التمويلات و المنح الدولية التي سيكون مصبها الأول قطاع الصحة و الغذاء. على هذه الشركات أن تضع خططا محكمة لادارة الأزمات (crisis management ), و منهجية علمية لتوليد الأفكار, لتتحكم في مصادر الهدر,  تخفض تكاليف الانتاجية, و تنويع مصادر قطع الغيار مع تشجيع الانتاج المحلي سواء لدى الخصوصين أو الورش الذاتية ما أمكن ذلك.

و اذاكان قطاع الصحة سيستفيد من الاهتمام العالمي كنتيجة منطقية للأزمة, فانه يتحتم علينا أن نوجه القسط الأكبر من التمويلات الدولية و الذاتية لاقتناء أعداد كافية من معدات الفحص و التشخيص, تطوير مدارس الصحة, توسعة كلية الطب, و خلق مراكز بحث و رصد الأمراض المعدية. علينا أن نستفيد من تجربة العديد من بلدان العالم الثالث التي لم تجعل نصب أعينها الاستفادة المحلية من الكفاءات الطبية فقط و انما جعلها مصدرا من مصادر الدخل القومي, سواء بتصدير الممرضين للعالم مثل الفلبين التي عدد ممرضاتها يمثل نسبة 25% عالميا أو من خلال السياحة الطبية مثل تونس و تايلاند. يجب الايمان بقدرات الانسان المويتاني ومواهبه التي تحتاج للرعاية فقط.

أما القطاع الثالث و الأهم فهو قطاع الزراعة,  ستدفع هذه الجائحة الكثير من الدول الى الاهتمام أولا بمخزونها الأمني و وضع قيود على تصدير بعض السلع الأساسية, و ان بلدنا بما حباه الله من أرض شاسعة و متنوعة, نهر و مياه جوفية, لا يحتاج الا الى الاهتمام بهذا القطاع الحيوي, و اعطائه الأولوية اللازمة. لقد مرت بلادنا بالعديد من التجارب و المحاولات الفاشله لأنها تصطدم بصخرة الموسمية و الانتهازية و الفساد, معاهد و حملات زراعية لم تؤتي شيئا مذكورا. اننا نتحاج لاصلاح زراعي تكون الأرض ملكا للدولة فقط, تمنح مؤقتا لمن يستغلها, مع التركيز على التكوين, و أن تكون المساعدة مربوطة بالانتاجية و يوجه معظمها لاقتناء الآلات و البذور مع مكافاءات نقدية تشجيعية لأفضل منتج, غير ذلك من المساعدات تشجيع للتسول و الاتكالية. ان على الدولة مسؤولية الحضور بشكل أفضل في مجال تموين و توفير المواد الغذائية فان ذلك أدعى للحفاظ على مخزون استراتيجي و توازن السوق المحلي الذي يفترسه الجشع بعدما قضى الفساد على مؤسسات حيوية مثل سونمكس.

ان الصيد هو ثروتنا الحقيقية التي يجب الحفاظ عليها من النضوب و الاستغلال السيء, و شبكات الفساد المحلي و الدولي, انه غذاءنا و ورقة مساومتنا مع العديد من الدول, فالله الله فيه.

  و يبقى الفساد بيت الداء الذي أهلك الحرث و النسل, و لن تصح صحتنا و لن تنمو زراعتنا, ما لم يقم بعملية جراحية ناجحة تستأصل دودته الزاءدة و تفتح بطنه المنتفخ.

أشرت عليهم برأيي بمنعرج كوفيد, و كلي أمل أن يستبينوا الأمر و يخططوا له بحزم قبل فجر الغد, الذي أرجو ممن بيده الأمر كله أن يشرق على الوطن و الأمة بتحقيق الأمل مودعين الألم الى غير رجعة.

سبت, 11/04/2020 - 10:16