حفظ الدين منوط بحفظ الأنفس :

 سيدي محمد العربي

كثر اللغط والجدل في الايام الأخيرة حول توقيف وتعطيل صلاة الجمعة ومن خلال الجدل الذي دار بين العلماء والكتاب والمثقفين ...وانقسم الناس حوله إلى ثلاثة اتجاهات: 

1-اتجاه متحمس:  تدفعه الحمية للدين وشعائره التي يسمع لأول مرة في التاريخ الاسلامي حدث- كهذا-يؤدي الى توقيف شعيرة الجمعة مع أنه قد كان هناك توقف في بعض الشعائر الأخرى كالحج في الماضي ففاضت محابرهم وجادت قرائحهم بالكتابة حول المضوع متهما أحيانا ومخاصما أحايين.. ومتفهما نادرا..

2- اتجاه يستقبل كل رأي  إلا من المتدينين: ويستورد من فلسفة الماديين التي تعبر ظواهر الامور بمسببات عادية واعتيادية لا يهمهم أصلا الثقل والضجر  الذي يتحمله المتدين من صعوبة توقيف الشعيرة التي يقاتل عليها كما قرره الفقهاء في باب الأذان لمن ينبغي ان يرتفع الأذان بينهم كالقرية والجماعة في الحضر (ذلك ومن يعظم شعائر الله) .وقد يكونون للأسف لا يعبهون بهذه الشعيرة.

3-اتجاه يتفهم قرار الحكومة بالتوقيف وينقسم إلى:

أ‌- فريق يريد ترشيد القرار بالتخفيف من جمهور المصلين والابقاء على عدد -اثني عشر باقين لسلامها- وهذا هو الذي اتجهت اليه سلطة الوصاية في المرحلة الثانية وصرح به وزير الشؤون الاسلامية في الخرجة الاعلامية الاخيرة على التلفاز . قبل هذا  التفشي الكبير للوباء.

ب- وشبيهه بطريقة أخرى وهو ما اتجه إليه شيخنا محمد الحسن الددو  بحيث يرفع الأذان والصلاة في البيوت واستدل بأدلة كثيرة  وقوية منها أن خليل ذكر أن المسجد إن ضاق يكتمل بباحاته ورحبته.(وصحت برحبته ان ضاق واتصلت الصفوف كبيت القناديل وسطحه ودار وحانوت ..)

وبهذه الآراء والاتجاهات ومن خلال النصوص المستقرأة التي اعتمدها أهل العلم في  الامر والنهي ان خطاب الشارع منتهى فلسفته على حفظ الكليات الخمس: الدين -النفس- المال- النسب – العرض.

وبما أن الدين هو الأصل لتالييه من الكليات وهو سبب وجودنا   نحن -الثقلان-(وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون )

(الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا )

إذن نعلم من هذه الآيات وغيرها أن هذا الكون وما فيه من كائنات خلق كبيئة للثقلين -الجن والانس- لتدبير شؤونهم واستخدامها فيما يصلح أحوالهم وذلك يتحقق بما يلى 

- حفظ النفس التي خلقت لتحقيق العبادة فقد كرمها الشارع وطالبها وطلب لها بالحفظ وهي المصونة في كثير من نصوص الوحي (ولقد كرمنا بني آدم )(....إن  شئت أطبقت عليهم الاخشبين...  لعل ان يخرج من أصلابهم من يوحد الله تعالى لا يشرك به )( تناكحوا تناسلوا فأني مكاثر بكم الامم )

-المال والمحافظة عليه من أجل ضمان الرزق الذي هو أهم شرايين الحياة في الاقوات والاعراض (كلوا واشربوا ولا تسرفوا) (خذوا  زينتكم عند كل مسجد )  والمحافظة على المال تتضمن كل النصوص المتعلقة بأحكام المعاملات وما يتعلق به من حدود وغصب وتعد... 

- النسب لما طالب الشارع بالإكثار من الأنفس اشترط  في هذا ضوابط وشروط حتى لا تعيش الناس بطريقة الشهوانية البهائمية التي تفضي إلى ضياع الأعراض وإخراج نفس ضعيفة بهيمية لا تفكر ولا تستنتج ولا تميز .. رغم أن الله أودع فيها التسبيح والتهليل ..(وإن من شيء الا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم)  لأنه يريد تلك الانفس الطاهرة النقية من حيث المورد إلى المستقر وهي التي اعدها للاستخلاف وتحمل الامانة.

ـ العرض خاطب الشارع المسلمين بعدم الوقوغ في الأعراض وطالب الانسان أن لا يضع نفسه من حيث الهيئة حتى لا يكون عرضة للناس.

 

إن هذه الكليات مرهونة كما أسلفت بحفظ النفس :  والنفس في الاوبئة  والحروب والكوارث تكون الأولى  والأهم لأنها مناط خطاب الشارع في ظواهر خطابيه النظري -العقدي - والعملي-  المشمولين في الآية (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون )

وقد جاءت النصوص الشرعية وفي أشدها أهمية مخففة : 

ـ العقيدة (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا..)

يليه في الأهمية :

ـ الجهاد: (يأيها الذين آمنوا اذا لقيتم فئة فاثبتوا...) لتأتي الآية الأخرى فترخص ( إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة ) ثم الآية (ولا تلقوا بأيدكم الى التهلكة ) إذ يرى بعض المفسرين أن من أمثلتها إقدام الفارس أو الفرسان على الجيش الذي لا قبل لهم به .  ثم  تأتي آية التقية ( لايتخذ المومنون الكافرين أولياء من دون المومنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة..)

ـ الصلاة: وأول ما تصح به شروطها ومن أهمها الطهارة وآية الطهارة جاءت بالمائية وبدلها الترابية إن كان هناك مرض أو خوف منه أو من تأخره ..(..(أوكنتم مرضى أو على سفر) .. (فتيمموا صعيدا طيبا) بالغ اهل العلم في هذه الاعذار حتى قال خليل وهو يعدد تلك الاعذار:  ..(لخوف  مرض أو زيادته او تأخر برء أو عطش محترم معه..) قال شراحه في عطش محترم : ككلب يرافقه 

وشرح صاحب النصيحة -رحمه الله- هذا النص بقوله : بخوف من كنزلة برد. وروي عن السرية التي أجنب أحدهم وصلى بالتيمم وأعلم صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: إن تلك الليلة كانت باردة وان الله سبحانه وتعلى يقول :(لا تلقوا بأيدكم إلى التهلكة) فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على اجتهاده. 

ـ الحج والصوم : ركنان رئيسيان اشترط الشارع فيهما القدرة المادية والبدنية فقال في الصيام (يا أيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) وقال: (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر)  ومع تشدد الفقهاء في الصوم وأهمية استخدام العزيمة فيه على حساب الرخصة نجدهم يترخصون رغم الآية (وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون)ولقيمة النفس المحتملة في الرحم أوفي الرضاع يترخص الفقهاء خليل يقول:(ولحامل ومرضع خافتا على ولديهما )

أما الحج فقد جاء في حديث جبريل المشهور( ....وأن تصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا )هذه الاستطاعة  تفرق عليها أهل  العلم الى كثير اتجاهات أشدهم فيها يقول قوت عام والذي اشد منه يقول الزاد والراحلة مع الطريق الامنة كشرط دائم .

وفي المناسك والواجبات يأتي النص للتخفيف (....فمن كان منكم مريضا أوبه أذى من رأسه ....) قال بعض أهل العلم في هذا الاذى إنه  القرع أو الدمل والقمل ....

 

إن جائحة  الكرونا التي أصابت العالم أجمع بقويه وضعيفه بمسلمه وكافره بذكيه وغبيه ..لهي أم الأعذار التي تبيح التخلف عن الجمعة وتعطيلها لأنها قد  تؤدي الى مرض مظنون الوقوع  وبالإصابة به يكون الانسان إما ميتا وهي ادهى الدواهي ، وإما مريضا وهذ المرض  إما معجز عجزا كليا قد يوقف صاحبه عن تحقيق العبادة على الوجه المطلوب وتوفير ظروف اقتصادية وبيئية لمن سيحقق معه تلك العبادة  من أولاد وإخوة وعمال في مصانع ومعامل ومتاجر...

وقد يحدث بتفشي هذا المرض الذي يعتاش على الجموع والتجمعات إلى إنهاك المجتمع واستهلاكه في نائبة وحرب يمكن توقيها بتعطيل مؤقت لعبادة لها بديل من جنسها  وهي صلاة الظهر الذي بقي للمسافر ولغير أهل  الحضر  والمريض ....

و هذا التعطيل يحمي السلطة العمومية ويوفر باقي قوتها للأعداء الدائمين  الأمراض المزمنة والمتوقعة -الجهل-التخلف، وكذلك القدرة على تسيير المرافق العمومية الضرورية .

 

ملحوظة: قد يقول قائل الدولة لم تغلق الاسواق والمصانع نقول هذه أرزاق الناس يحصلون بها أقواتهم التي هي سر الحياة مع الله تعالى والله سبحانه وتعالى يطالب الإنسان بالاهتمام بالنفس، وتحصيل الأرزاق منوط بفتح الأسواق الذي يوفر لقمة العيش للأنفس التي بإذن الله تحقق العبادة، لذلك كان النص بعدم مؤاخذتها على التصريح بالكفر مع إضمارها الاسلام (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان) وهو مكمن الابتلاء (ليبلوكم أيكم احسن عملا ) واتخاذ والاجراءات المناسبة هي من الأسباب المطلوبة عند الاقتضاء (الا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة)

اثنين, 25/05/2020 - 15:38