د. حماه الله والبيان الثقافي رقم (2) أسئلة في الثقافة والمثقفين (1-2 )/

محمد ول محمذن فال

بغيرته على المثقفين العرب يكتب الدكتور حماه الله بألم الحسرة الوجع الذي يتعرض له هؤلاء , والحيرة التي يعيشون , ما بين القضية والدور , والإديولوجيا والتحزب , وما بين السلطة والتوظيف.
الشيء الذي تسبب في التراخي أو على الأصح التفريط في المنتج الثقافي والإبداعي , وكذلك إلى الصراع الإديولوجي وهذا الأخير حال دون إنتاج إديولوجية عربية صرفة . 
وهي حيرة فرضها عليهم – حسب رأيه - بعدهم عن دورهم الأساسي : (حمل مشروع الإخاء والتفاهم بين الناس , والذي لا يتم إلا بالخروج من رهانات التسيس والإديولوجيا والمذهب والطائفة ).
نحن إذن – بقراءتنا ورقة د. حماه الله – أمام بيان ثقافي جديد مثل أول بيان ثقافي في التاريخ (إنني أحتج) المنشور في جريدة لورور الباريزية 1898 والموقع من طرف "أميل زولا" و"أناتول افرانس" وغيرهما من كبار المثقفين الفرنسيين , لكنه هذه المرة يخص فئة بعينها هي المثقفين العرب.
هنا يبرز السؤال من هو المثقف ..؟
يرى عالم الاجتماع العراقي د. علي الوردي : أنه ليس كل من كسب معلومات ومعارف كثيرة يعتبر مثقفا , إذا لم يتميز بمرونة في الرأي واستعداد لتلقى كل فكرة والتأمل في وجه الصواب فيها .
وتقول الكاتبة / غيداء درويش : إن المثقف هو من يخرجنا من فوضى المفاهيم , ويدخلنا ثقافة الحياة ذاتها .
ويحيلنا د. عابد الجابري في قراءته للبيان الثقافي لأميل زولا إلى أن المثقف : ليس ذلك الشخص الذي لا يكتفي بممارسة النشاط الفكري النابع من الوعي والفهم وسعة الأفق فقط , بل هو صاحب رسالة ويبحث عن الحقيقة ... .
ويتابع : هو من تتحول عنده الأفكار إلى نماذج ومثل ومبادئ لا تفرق بين عقيدة أو لون أو جنس أو توجه سياسي وآخر ....... 
وهذا بالضبط هو محور وجوهر ورقة الدكتور حماه الله , وهو بهذا يبتعد عن مضمون بعض الحواريات العميقة التي صاغتها / د. "سيمون دا بوفوار" على لسان أحد أبطال روايتها الشهيرة :  " المثقفون " يقول "سكرياسين" : إنكم في بلاد ديدورو , وفكتور هيغو , وجوريس تتصورون أن الثقافة والسياسة تسيران يدا بيد ....
وكذلك قول الفيلسوف الألماني "هابرماز" : الثقافة هي عبور المثقف من الحقل الثقافي إلى الحقل السياسي أو بالأدق فضاء الشأن العام.
وكذلك ما يطلق عليه الروس "الأنتلجنسيا" : المثقفون هم الذين يناضلون من أجل أهداف سياسية ثورية . 
وبطرح حماه الله هذا لدور المثقف يجعله خارج الفعل , أو على الأصح يلعب دور المراقب , وهنا يبرز التساؤل هل المثقف محايد ..؟
يرى الفيلسوف الفرنسي / سارتر أن المثقف هو الذي يدس أنفه فيما لا يعنيه :
)Quelqu’un qui se mele de ce qui ne le regarde pas (
ويقول د. أدورد سعيد : المثقف معني بالمساهمة الفاعلة في معالجة كبريات قضايا المجتمع الجذرية ومحاولة إصلاحها .
ويزيد فيقول : إن إحدى مهمات المثقف هي بذل الجهد لتهشيم الآراء المقبولة , والمقولات التصغيرية التي تحد كثيرا من الفكر الإنساني والاتصال الفكري .
ويقول "ريمون أرون" : المثقف ليس مجرد مبدع أفكار ومتفرج ملتزم , بل صوتا للمظلومين , ومن يتوفر على حس إنساني عالي المستوى ...
هذه المقولات – وهي لمثقفين "عضويين" - تناقض مثيلاتها القائلة بأن المثقف محايد لا صانع مواقف , وتلك التي تقول إنه من يتوفر على نشاط ذهني غير الذي عند الآخرين , وأيضا التي تقول : إنه مؤلف لغة تحاول أن تقول الحقيقة.
لعل د. حماه الله يمثل الرأي الأخير حين يقول : على المثقفين أن يبينوا للسلطة وخصومها أنهم ليسوا حزبا سياسيا , ولا جوقة طبالين , إنهم شيء آخر مختلف تماما .
 وهو هنا يثبت ما قاله الفيلسوف الإيطالي / أغرامشي لكن بلغة معاكسة : ليس المثقفون أكثر من موظفين لدى الجماعة المسيطرة , وخبراء في إضفاء الشرعية على الكتلة الحاكمة .
والتباين حول دور المثقف ومنزلته في المجتمع وفي الفعل ربما يكون بسبب الخلاف بين المثقف العضوي الذي ينظر لقضايا المجتمع من حيث الانتماء والارتباط الحزبيين , وبين الذين يرون أن دور المثقف  تحدي الواقع حيث كان .
يقول د. اتشومسكي : المثقف هو من يمثل الحقيقة في وجه القوة .
ومع كثرة التنظير حول المثقف نخلص إلى رأي المفكر والمؤرخ الجزائري / خير الدين سعيدوني : إنه المتميز بنزعة العقلانية النقدية الاحتجاجية .
.....
ولو نظرنا إلى هذه الحيرة - كمراقبين - نجد أن لها إكراهاتها ودوافعها , أظهر تلك التهميش من قبل مقرري الحالة الثقافية وكذلك بالأحرى الحالة السياسية , فلا يوجد تواصل ولا تلاقي بين المثقف الحيوي المتطلع للفعل والإرادة وبين محركي دورة الحياة في الحيز القطري الذي يوجد فيه كل مثقف وكل متعاط للفكر والتأمل والرؤى , وبالتالي غاب التكامل بين الأدوار التي يجب أن يلعب كل واحد منهما حسب موقعه وما لديه من مستويات معرفية .
وبما أن زاد المثقفين المعرفي مشحون بتجارب تاريخية أثرت في الحياة وأثرتها , كان المثقف هو محورها ومحركها الأساس - اعتبرها الدكتور أركون أول "أنسنة" للعلوم - مثل المناظرات المشهورة في مجالس الخلفاء والأمراء أيام العهد العباسي بين:
الإمام الشافعي والفقيه محمد بن الحسن .
الكسائي والأصمعي.
بديع الزمان الهمذاني والخوارزمي.
وما دار منها في بلاط سيف الدولة الحمداني .
وما ذكره الزجاجي في كتابه "مجالس العلماء" .
هذه المناظرات هي التي استوحى منها ابن بن نباتة في العصر المملوكي مناظرته المتخيلة "بين السف والقلم" .
صالون "القصر المريني" ونجمه العالم والمثقف الأندلسي الكبير / إبراهيم الآبولي , يذكر هنا أن هذا الصالون كان له الأثر الكبير في تكوين النسيج المعرفي المتعدد لابن خلدون .
وكذلك المسحة التنويرية التي طبع بها المستكشفون العرب في القرن التاسع عشر أوجه الحياة في بلدانهم , بعد اطلاعهم على الحضارة الأوربية ونقل مظاهرها لأوطانهم مثل :
رسالة العبد الضعيف إلى السلطان الشريف لابن عزوز 1849مـ (المغرب).
تلخيص الإبريز في تلخيص باريز للطهطاوي 1831 مـ (مصر).
وغيرهما .
الظروف والطموحات والثقة في المحصول والإنتاج المعرفيين , تجعل المثقف أحيانا تحت وطأة الذاكرة يبحث عن الانتماء والانتساب كفرصة للمشاركة في الفعل أو أبعد من ذلك لمجال الريادة , أو على الأقل للبقاء على قيد الحياة , كي لا يتكرر ما فعل التوحيدي , وعمرو بن العلاء , وداوود الطائي , وأبي سليمان الداراني , والنهايات المأساوية الأليمة لابن الأبار وابن رشد وابن الخطيب ويحيى ابن خلدون وغيرهم كثر .
.....
يستدعى الدكتور حماه الله – على سبيل الاستئناس بالتاريخ - تجربة الدكتور طه حسين وليته لم يفعل .
رجع د. طه حسين من رحلته الباريزية مشبعا بروح العقلانية الديكارتية والسوسيولوجيا الخلدونية حسب قراءة الغربيين لها , ما جعله يعتلي قمة الدرس والبحث في الجامعة المصرية وفى القراءة العربية بوجه عام , ففتن الناس بمنهجه الجديد خصوصا نظرته للتراث وبالأخص الأدبي منه تحت تأثير قراءاته في (ليمانسم) المذهب الإنساني الذي ابتدعه أصحاب النزعة الإحيائية (رينسيمانتو ) في إيطاليا نهاية القرن الرابع عشر. 
وهو ما كان له أثره المدمر على الدرس الأدبي ليس في مصر وحدها , وإنما في العالم العربي بصفة شاملة ,حيث انتقل الدرس الأدبي من دراسة النصوص متنا وحفظا ولغة وبيانا وبلاغة إلخ .. إلى دراسة تاريخ أصحاب النصوص وبالتالي أنهار مستوى الطلبة إلى اليوم . 
وعلى عكس توظيف الغربيين هذا المذهب لدراسة التراث القديم في أصوله وتقنين نتائجه عن طريق : المنطق والبراهين التجريبية لإحيائه واسترجاعه من لغات الترجمة خصوصا العربية إلى لغات الأصل , حاول طه حسين توظيفه بشكل معاكس لتدمير التراث العربي ونسفه من الأساس , قبل أن يصطدم بالعقل الجمعي المصري الواعي لأهمية تراثه .
وفى هذه أغفل د. حماه الله  كون طه حسين توقف دوره التنويري وعطاؤه الثقافي والفكري الحر بانتمائه الحزبي – ما بعد العشرينيات - ليصبح مثل غيره موظفا وكاتب عمود في صحيفة ومؤلف كتب , لا كمفكر ملهم ومصلح , ولم يبق له من ذكر إلا إذا كان عرضا في تاريخ النقد الأدبي .
.....
وبخصوص هل هناك أزمة ثقافية ..؟
ترجع به الذاكرة – وهو المؤرخ البارز – إلى كتاب "أزمة المثقفين العرب" للدكتور عبد الله العروي مستدلا به على قدمها واستمراريتها , هذا الكتاب الذي تساءل فيه مؤلفه – منظر إديولوجية نقد الإديولوجيا العربية - عن دواعي الإديولوجيا المتقلبة فى المجتمع العربي , مجيبا على ذلك بعدم استيعاب الفكر العربي لمكاسب العقل الحديث وعقلانيته وموضوعيته وأنسنته  .
هذا الكتاب المؤلف وسط الستينات من القرن الماضي - وليس بداياته كما ذكر الدكتور - يعتبره الدارسون لفكر العروي ليس إلا مقدمة لكتابه "العرب والفكر التاريخي" يؤسس فيهما لرؤيته المكرسة للقطيعة مع التراث مستلهما ومنظرا أحيانا للتاريخانية الماركسية مستندا في ذلك على منهج تحليلي استقاه من تجارب البحث والحفر للتاريخ الغربي , ليوظفه في تحليله للواقع العربي واستحالة النهوض , لكن ليس عن معرفة معمقة نابعة من دراسة تمحيصية لهذا التراث , وإنما عن تصورات ذهنية خيالية ومفاهيم تحتاج لأسس , وقياس في غير محله على التراث الغربي .
وهو ما جعل الكتاب في عزلة عن القارئ العربي ليس لتأخر الترجمة عقودا كما يقول الدكتور حماه الله – ترجمه د. ذوقان قرقوط 1978 لعل الدكتور لم يطلع عليها- وإنما لنظرته الفوقية وبحثه خارج السياق المعرفي للتراث العربي الإسلامي .
يقول د. قرقوط في مقدمة ترجمته : إن محتوى هذا الكتاب على ما أدرك جيدا قليل الارتباط بالحالة الحاضرة , فالواقع الذي يحاول إيضاحه سوف يمكن دحضه دائما , حتى أن المعنى المجرد للتأخر الثقافي الذي يبرره يمكن بسهولة دحضه لأنه من جانب واحد وليس اديالكتيكيا .
في قراءته لطرح العروي يقول الباحث/ مرشدي كريم : تظهر واضحة نوعية العلاقة التي تربط النهضة والتراث في فكر العروي , إنه ليس تراث العرب بل هو تراث أوروبا , يرفض ماض ليأخذ بآخر... 
ويتابع في مكان آخر : وهكذا يبقى فكر العروي وفيا لمسألة التراث والنهضة , إلا أنه ليس تراث العرب بل تراث الغرب من ماركسية ألمانية بالخصوص وليبرالية أوروبية غربية , ويبقى التراث العربي بالنسبة له شيئا لا طائل من ورائه ...
ويستطرد نقلا عن الجابري في "الخطاب العربي المعاصر": إنها إحدى نقائص العقل العربي التي تلازمه , سواء تحدث عنه في داخل تراثنا أو في داخل الفكر الأوربي أو في مكان يقع بينهما .
العروي نفسه يقول في كتابه "مفهوم الإديولوجيا" : إن وضوح المفاهيم المستعملة لا يوصل بالضرورة إلى إدراك الواقع , لكن على الأقل تخلص الباحث من التساؤلات الزائفة , وما أكثر التساؤلات الزائفة في ميدان نقد الذهنيات .
ويقول في كتابه "مفهوم العقل" : إن المفاهيم التي شرحتها والتي كان يمكن أن أتمم بها السلسلة , لا تطابق المجتمعات العربية مطابقة تامة .
 ثم ينقل د. حماه الله عن د. حسن حنفي تبريراته - المتفائلة الحالمة الماكرة – للأزمة : لعدم وجود خط وسط بين المثقف والسياسي , ولوجود استقطاب ما بين الحداثيين ومن لا يقبلون التنوير - من وجهة نظره - , ولكون الاختلاف يعطي للحياة السياسية معنى يتجلى في التنوع حول الحقوق والمنافع والأفكار , وأنها دليل على الحيوية ونهاية قديم وبداية جديد (...).
هل يغيب عن د. حماه الله أن حسن حنفي هو مغذي هذا الاستقطاب ومحركه ..؟
هنا نتساءل ما سر استدعاء د. حماه الله لهذا الثلاثي الممثل الحي للقطيعة مع التراث ..؟ هل هي بواعث تشكلت في وعيه أثناء بحوثه ودراساته للتراث خصوصا جانبه المحلي بالنسبة له ..؟ 
أم هي محاولة عن قصد أو غيره لتأسيس رؤية "تاريخانية" للتنويريين العرب تلغي كل الذين دافعوا عن هذا التراث وأهميته في تشكيل مراحل تكوين الشخصية العربية الإسلامية عبر الامتداد الزمني والجغرافي لتواجد مراكز ثقلها الحضاري .
إن عدم ذكر أسماء معاصرة لطه حسين مثل : د. أحمد زكي باشا , أحمد أمين , العقاد , وحتى الذين لم يدافعوا عن هذا التراث مثل : أحمد لطفي السيد الذي يصفه العقاد بإفلاطون الأدب العربي , وأول من دعا في العالم العربي إلى ضرورة تمتع الفرد بكثير من الحرية وبغياب رقابة الدولة على المجتمع , وبضرورة أن يكون الحكم قائما على أساس التعاقد بين الحاكم والناس , ولا للجابري وأركون ومحمد عماره المعاصرين لحنفي والعروي ,  يجعلنا نتساءل عن الدافع لذلك .
في تأريخه للمرحلة الثانية من الأنوار في الغرب والتي كان لها تأثيرها البالغ , ذكر د. أركون ثلاثة أعلام لا يربطهم خط فكري معين ولا نسق في التوجهات والأطروحات مثل : هيجل "نقد العقد التشريعي" , نتشي"تاريخ القيم الأخلاقية" , فرويد"العقل الباطن" حتى أنه ذكر الكتاب الذي تعقب فيه كارل ماركس كتاب هيجل (محاضرات الكويت 2008).

ثلاثاء, 28/07/2020 - 20:41