الحج والسياسة والأوبئة!

حسن المصطفى

كان مشهداً مهيباً، تلك الجموعُ على محدوديتها، وهي تطوف بالبيتِ الحرام، متسقة، متباعدة، إلا أنها متصلة روحياً بالرحمن الرحيم.

بقدرِ ما كانت صور الحجاج وهي في مكة المكرمة تبعثُ عن القشعريرة في روح الرائي، بقدر ما كانت تنبئ عن مدى خطورة الأزمة الصحية التي أصابت العالم، جراء تفشي فيروس كوفيد- 19. هي أوقات استثنائية، ستعبرها البشرية، وتتغلب على المصاعب، طالما كانت الأرواح صلبة والعقول متقدة، والعلم نبراسٌ ومشعل.

السعودية، حكومة، تعاملت مع الأحداث الصحية بحذر وحيطة ومسؤولية. التباعد الاجتماعي، واحدٌ من أسس مقاومة تفشي الوباء. فيما الحج تجتمع فيه ملايين الأنفس، متقاربة، متراصة، أتت من كل فج عميق. لذا، أتى القرار بأن تقام الشعائر بأعداد محدودة، يتحقق من خلالها المُراد، وتتجنب فيها المملكة وقوع الكارثة. وهي كارثة لم تكن لتصيب السعودية وحدها، بل ستتعداها إلى مختلف القارات.

القرار السعودي لقي تأييداً من منظمة الصحة العالمية، وهيئات دولية عدة. حتى إيران التي عادة ما تناكف المملكة في ملف الحج، لم تنتقد القرار، لعلمها أنه الرأي الحصيف الصائب.

هيئة كبار العلماء في السعودية، ومجلس الإمارات للإفتاء الشرعي برئاسة العلامة عبد الله بن بيه، أصدرا بيانات تأييد لهذه الخطوة. أيضاً، مصادر البيت المرجعي في مدينة النجف، أكدت أن آية الله السيستاني هو الآخر كان مسانداً للإجراء الاستثنائي السعودي؛ لأن الأهم وما جاءت من أجله الأديان هو: صونُ حرمة الإنسان، وحفظ ماله ودمه وعرضه.

العقلانية في التعامل من الجهات المذكورة أعلاه، وأخذ الحيطة والحذر، في ظل وباء واضح للعيان مدى خطورته، لم تمنع رجل الدين الشيخ محمد الحسن الددو، من اعتراضه على القرار السعودي، قائلاً في حوار مع قناة «الجزيرة مباشر»: إن «طريقة اتخاذ القرار لا بد أن تكون جماعية.. ولا يختص بدولة واحدة، فالحج لجميع المسلمين». مطالباً بعقد مؤتمر عام، يشارك فيه رؤساء الدول وعلماء المسلمين والمنظمات الإسلامية، وهو الأمر المُحالُ تحققه!

حديث الددو لبرنامج «أيام الله»، يقرأ منه التوجه لـ»تدويل الحج»، واستغلال الأزمة الصحية لتجديد هذه الدعوة التي تنطلق من جماعات الإسلام السياسي والدول الراعية لها.

العام 2017، وأثناء مشاركة الشيخ الددو من مشعر «منى»، عبر قناة «الجزيرة»، اعتبر الشيخ أن «الحج ارتبط بالسياسة منذ فرضه»، سارداً العديد من الأدلة بهدف تأييد رأيه. وهي الأدلة التي لها منشأٌ انتقائي، بما يتناسب وتوجهات دعاة «الإسلام السياسي»!

إشكالية خطاب الشيخ الددو، ومن هم ضمن فلكه، أنهم يعتقدون أن المشاهدين رهطٌ من السذج، الذين يمكن خداعهم بمجموعة من الشعارات الرنانة، وسرد أحاديث ووقائع تاريخية خارج سياقاتها، متناسين أن العالم اليوم هو عالمُ العلم والتقنية والتفكير النقدي الذي لا يقف عند مقولات العلماء ليبجِلها، بل يخضعها للمراجعة والفحص والتدقيق.

تلك هي إحدى أزمات «المتأسلمين»: استخدام الدين لا لكي يكون رحمة للعالمين، بل شأناً خاصاً بهم وحدهم، ولرؤيتهم الضيقة.

*نقلاً عن صحيفة "الرياض"

ثلاثاء, 04/08/2020 - 15:29