وحدتنا الوطنيه مسؤوليتنا جميعا

محمدعالي الهاشمي

تسعى الدول لتحقيق الكثير من الخطط والأهداف التي تصوغها في استراتيجيات عمل ممتدة زمنياً، بما يتناسب ومع طبيعة الطموحات المراد إنجازها، ويأتي على رأس هذه الاستراتيجيات وفي قمة الأولويات منها، ترسيخ الوحدة الوطنية بين أبناء الشعب الواحد، وتعزيز قيم المواطنة، مهما اختلفت الاثنيات والايديولوجيات والأفكار والرؤى ووسائل تحقيق الأهداف، لتبقى تجتمع على ضرورة تحقيق المصالح العليا للبلاد، وفي قمة الهرم منها، وحدة الشعب وصلابة جبهة الوطن الداخلية، وسعي كل مواطن إلى أن يكون عوناً لأخيه في كل مكان على أرض الوطن. يبنيه الجميع بحبهم، ويحمون منجزاته، ويسارعون لتلبية نداءه التي تكون في المقام الأول والأخير تصب في مصلحتهم من كل الزوايا.

يكثر الحديث هذه الايام عن الوحدة الوطنية وضرورة صيانتها والتصدي لما يهددها من مخاطر، وهناك ضرورات وطنية واستراتيجية باستمرار، لتظهير العناصر الأساسية في قوة الاجماع الوطني، وسبل تجاوز الأخطاء والثغرات التي تعرقل بناء المستقبل على أسس ومبادئ، تزيد من فرص التطور الوطني، وتشحذ همم المواطنين نحو الأهداف العليا والتطلعات الكبرى للاجماع الوطني. والتفتيش الجاد عن إمكانيات وشروط نجاح المستقبل.

إن الوحدة الوطنية في بلدنا ، مرهونة في كثير من أبعادها وآفاقها، على إمكانية وجود فضاء سياسي وثقافي واقتصادي مشترك، وهذا الفضاء نتاج مشترك ومتراكم. إذ أن جميع المكونات الثقافية والاجتماعية لوطننا، تساهم في تشكيله، وتعمل على تقعيد أسسه ومبانيه الاجتماعية والثقافية.

فالوحدة الوطنية ليست مقولة ناجزة، وإنما هي عبارة عن فضاء مفتوح لكل الجهود والإمكانات والمكونات لتعبر عن دورها ووظيفتها ومسؤوليتها في إطار وسياق تعميق موجبات الوحدة الوطنية. وإن تجاوز التراتبيات الماقبل الوطنية إذا جاز التعبير، يعتمد اعتماداً رئيسياً على قدرة الفضاء المشترك على فسح المجال الفعلي لكل المكونات للمشاركة في صياغة هذا الفضاء وإثرائه بالمضامين الوطنية والحضارية. المضامين التي تتجاوز الخصوصيات، ليس عن طريق القفز عليها، وإنما عبر استيعابها وامتصاص إيجابياتها والعمل الموضوعي والبعيد عن نزعات الصدام والتهميش لتهذيبها على المستويين الاجتماعي والثقافي.

فالمثل والمبادئ العامة، بحاجة دائماً في الإطار الاجتماعي أن تتسرب إلى تفاصيل الحياة الاجتماعية، وتكون جزءاً من النسيج الاجتماعي. 

الأخلاق الفاضلة والتعامل الحسن والحضاري مع الآخرين، يساهم بشكل مباشر، في نزع الغل والأحقاد من النفوس، وغرس قيم المحبة والاحترام.

وبإمكاننا أن نكثف هذا السياج الأخلاقي المطلوب، بكلمة واحدة وهي (الرحمة). إذ هي جوهر المحبة والألفة وضد التنافر والكراهية. فهي الأصل النفسي والأخلاقي الذي يفيض بالخير بمختلف أبعاده.

فالقيم العليا للإنسان، لا تبرر بأي شكل من الأشكال ممارسة العسف بحق الآخرين لكونهم مختلفين معك في اللون اوالرؤية أو الفكرة. فقيم العدالة واحترام الآخرين في ذواتهم وأموالهم وأعراضهم، حاكمة على كل قيم الاختلاف ومبررات العداء تجاه الآخرين. لذلك يقول تبارك وتعالى (يا أيها الذين أمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئآن قوم علي ان لا تعدلوا اعدلوا.......)

والعدل في جوهره إعطاء كل ذي حق حقه، ويقابله الظلم الذي يعني تجاوز حقوق الآخرين والاعتداء عليها. وهو بذلك يشمل كل مستويات الحياة من قبيل المحافظة على كرامته وحرمته من البهتان والغيبة والشتم، والحرية في العيش، والسلامة في الجسد من القتل والجرح ونحوها من مستويات الحياة.

فالعدل بكل تجلياته وعناوينه ولوازمه، هو أساس العلاقات الإنسانية السليمة في مختلف الدوائر الاجتماعية.

ونحن هنا لا نتحدث في سياق الرؤية المثالية، وإنما نحن نعتبر أن العدل والرحمة بكل تجلياتهما هما جسر الوصول إلى الأمن الشامل في أي مجتمع، وهما اللذان يعمقان أسباب الوحدة الوطنيه بكل صورها ومستوياتها، وهما اللذان يطردان كل نوازع وبواعث التفتت والانقسام بكل اشكاله.

فالانتماء الوطني، لا يعني فقط أن أحمل الأوراق الرسمية الثبوتية، كما أنه لا يعني أن أحفظ النشيد الوطني وأقوم بتحية العلم. وإنما هو قبل كل ذلك، هو شعور عميق بالعيش الواحد مع كل أبناء الوطن، ومصير مشترك يربطني معهم. وهذا الشعور الصادق يدفعني للعمل بكل ما أملك من طاقة وقدرة لتعزيز هذا الشعور وتحويله إلى حقائق قائمة على كافة الاصعده 

وجماع القول: إن التطوير الوطني والاجتماعي، ينبغي أن يتم ضمن الشروط التاريخية والتحديات الجديدة التي نواجهها. وإن الوطن في المحصلة النهائية هو إرادتنا جميعاً في العيش المشترك.

فالوحدة الوطنية ليست مقولة تقال أو خطابا يلقى، وإنما هي ممارسة متواصلة ومشروع مفتوح على كل المجالات والمبادرات التي تزيد من رص الصفوف وتوحيد الكلمة وتمتين مستوى التلاحم الوطني.

وهذا بطبيعة الحال، لا يتأتى إلا بالمزيد من السعي والعمل والكدح على تكريس أسس هذه الوحدة ومتطلباتها في الواقع الاجتماعي. ولا ريب أن الحوار بين مختلف المكونات والتعبيرات، هو من المداخل الأساسية التي تساهم في تعزيز مفهوم الوحدة الوطنية. إذ بالحوار نستطيع أن نفهم بعضنا، وبه تتكرس قيم التواصل والتفاهم، ومن خلال تقاليده وآدابه ونتائجه نتخطى واقع الانقسام وحالات الجفاء والتباعد. وبالتالي فإن الحوار الوطني المستديم، هو الذي يمد واقع الوحدة الوطنية بالمزيد من الحيوية والفاعلية.

وذلك لأن الحوار المفتوح على كل القضايا والأمور والذي يدار بشفافية ونزاهة، فإنه يساهم في تجلية حقائق الوحدة الوطنية، ويجعلها على قاعدة صلبة من الوعي والمعرفة والإيمان.

والقرآن الحكيم ومن خلال العديد من آياته الكريمة، أرسى دعائم وأخلاقيات الحوار،  وهذا ما يدفعنا إلى الاعتقاد إلى أن الحوار وفي كل القضايا العقدية والثقافية والاجتماعية والسياسية متاحا، ولا مانع من الحوار مع كل الأفكار والقناعات والتعبيرات.

وبهذا يمنحنا الحوار جميعا الوضوح والشفافية في النظرة والتعامل مع الآخر،  والاستعداد النفسي الصادق للتعاطي مع المختلفين بعقلية حوارية مستديمة بعيدا عن التشنج والتعصب.

فالأحاسيس والاستعدادات النفسية لدى كل أطراف الحوار، يجب أن لا تتجه إلى تصعيد الخلافات، بل إلى القبول بالآخر والاعتراف به على مختلف المستويات. وذلك لكي يتسم الحوار بالموضوعية الذي يتجاوز المشاعر والأمزجة الذاتية، ويعتني بالأفكار والقناعات المشتركة.

فحينما تختلف مع الآخر، ينبغي أن لا يدفعك هذا الاختلاف إلى اتهامه بما ليس فيه أو تحميله مسؤولية أخطاء الآخرين. وإنما ينبغي أن تلتزم بمقتضيات العدالة والموضوعية، 

لهذا فإن منهجية الحوار السليمة، تقتضي منا جميعا التخلص من كل الرواسب النفسية والثقافية التي لا تقبل الآخر، وتثير أمامه زوبعة من الشائعات والاتهامات بدون أي سند وبدون أي مبرر سوى اختلافه معه. فالاختلاف مهما كان شكله أو مستواه، لا يشرع للإنسان الظلم أو إطلاق الشائعات والاتهامات و التنابز بالألقاب أو قذفه بأقذع الشتائم وأنواع السباب.

فالعدالة والموضوعية في عملية الحوار، هي التي تخرجه من جانبه الجدلي-السجالي الذي يستهدف تسجيل نقطة وإلزام الآخر دون أن يكون الهدف هو الوصول إلى الحقيقة. وبذلك يعتبر كل طرف نفسه أنه مع الحقيقة التي لا يمكن أن يحيد عنها، ويعتبر الطرف الآخر خارجا عن نطاق الحق والحقيقة. ويتحول الحوار من جراء ذلك، إلى محاولة متبادلة لإقناع الآخر بقناعات الذات دون أن نعطي لأنفسنا جميعا فرصة الإنصات أو التفتيش عن الحقيقة لدى الآخر. فغياب الاستعداد النفسي للتعامل مع الآخر على حد سواء، هو الذي يفقد الحوار حيويته، ويحوله في حال وجوده إلى مماحكات وسجالات تشحن النفوس وتزيد من الحواجز والموانع وتحول دون التفاهم المتبادل.

 وبالتالي فإن الاختلاف والتباين في وجهات النظر، لا يشرع لاستخدام الأساليب العدوانية كالشتم والسب والاتهام الرخيص.......

فإذا كنت ترفض فكرة ما أو ممارسة معينة، فلا يكون السباب والتعصب هو أسلوب التعبير عن الرفض، أو التشنيع وسيلة المواجهة، بل لا بد أن تنطلق الأساليب في دائرة الحجة والبرهان من أجل تكوين القناعات على أساس ثابت بعيدا عن المماحكات والتنابز بالألقاب. فالخلافات في الدائرة الاجتماعية والثقافية والسياسية ومهما كانت قسوتها وطبيعتها، ينبغي أن لا تلغي حالة الإحساس العميق بالوحدة والمشترك الإنساني.

فالأجواء المشحونة بالشك والريبة، لا يمكن تجاوزها إلا بالحوار المتواصل والتخاطب عن قرب والإنصات الواعي إلى الحجج والبراهين.

فالمسألة الحقيقية والجوهرية، ليست خلافاتنا وتباين وجهات نظرنا، وإنما في كيفية إدارة هذه الخلافات في كل القضايا والأمور. وإذا أردنا أن تكون إدارتنا لخلافاتنا بصورة منسجمة وتعاليم الدين الإسلامي الحنيف التي توجهنا إلى ضرورة التركيز على الحجة والدليل والقول والدفع بالتي هي أحسن، فما علينا إلا الالتزام بالمنهجية السليمة للحوار

ولا ريب أن التخلف كنمط عقلي وسلوكي وثقافي وعدم فهم النصوص الفقهية واسقاطها الي واقعنا هذا  هو هروب من الواقع الي التاريخ دون انسي الفساد الاداري المتجذر المتوارث منذ تأسيس الدوله ونهب المال العام ... وغيرها من  العوامل لتي هيأت  الظروف، لاستنبات هذه الصراعات، وتجذير هذه التوترات في الساحة  السياسيه والاجتماعية.

 وعندما ننظر  من منظور سوسيولوجي تاريخي ، نكتشف أنه في زمن معين ظهرت انقسامات مذهبية  ومدارس فقهيه وفكريه في الفضاء الفكري الإسلامي نتيجة التطور والتقدم  المعرفي في تلك الفتره  ولها دورها في تمزيق الامه الاسلاميه وتلاعب بوحدتها الوطنيه ونسيجها الاجتماعي .

لهذا فإن مربط الفرس في هذه المسألة، هو في طبيعة العقل والفكر السائد في المجتمع وعاداته وكل مجتهد يجتهد في زمانه ومجتمعه وحسب ثقافته.

كما أن بعض الاجتهادات  يمكن أن تكون  وسيلة تدميرية لكل القواسم المشتركة التي تجمع أبناء الوطن والأمة ولاتصلح لزماننا فكل مجتهد له زمانه ومجتمعه وثقافته.....

وعليه فإن مهمتنا اليوم، ليس الانحباس والتقوقع في تلك الانقسامات والاجتهادات التاريخية، وإنما مهمتنا الأساس تتجسد في بلورة الوعي الحضاري لدينا تجاه تلك الاجتهادات الفقهية والفكرية.. حتى لا تكون عاملا سيئا في واقعنا المعاصر.

فلا يمكننا أن نرجع عقارب الساعة إلى الوراء، ونصيغ أحداث التاريخ وفق ما نشتهي ونريد، وإنما الشيء الذي نقدر عليه، ويفيدنا في حاضرنا، هو النظر إلى التاريخ باجتهاداته المختلفة، ومدارسه المتعددة، وأحداثه المضطربة نظرة حضارية.

وإن النواة الأولى لتعميق خيار الوحدة الوطنية في مجتمع إرثه التاريخي المتعدد، هو تعميق الوحدة الشعورية لدى أبناء الوطن الواحد.. حيث أن وحدة الشعور هي المقدمة الطبيعية للوحدة العملية والاجتماعية.. لهذا ينبغي الاهتمام الجاد بمسائل احترام شعور الآخرين، وعدم العمل على استفزازهم والاستهزاء بمشاعرهم. لأن هذا الاستفزاز والاستهزاء هو الذي يؤلب النفوس، ويعمق الأحقاد، ويبني حواجز سميكة تمنع التلاقي والتعايش المشترك.

وفي الاخير هناك مقتضيات وضرورات عديدة، تدفعنا إلى الاعتقاد إلى أن طبيعة الظروف والمرحلة التي يمر بها وطننا العزيز، تقتضي من جميع الفعاليات والنخب الوطنية التفكير الجاد في بلورة وصياغة مشروع ميثاق للوحدة الوطنية. نبلور من خلاله ثوابت الوطن التي نعمل جميعا من مواقعنا المتعددة على تعزيزها وحمايتها، كما يجيب هذا الميثاق على أهم الأسئلة والتحديات التي تواجه حاضر الوطن ومستقبله.

ولا شك أن حضور المجتمع بقواه المتعددة لهذا الحوار، وإصراره علي ايجاد حل ومطالبته المتواصلة بتطوير الأوضاع وإصلاح الأحوال، هو مربط الفرس وحجر الزاوية في مشروع الإصلاحات السياسية.

أربعاء, 21/10/2020 - 15:21