يوميات سجين الوباء 34

إبراهيم الكوني

هل بوسع المسلك الدنيوي أن يستعير هوية الكتاب؟

بلى! بوسع نشاطنا الدنيوي اليومي، في بُعده الوجودي العملي، المترجم في حرف المسلك الأخلاقي، أن يستعير خصال الكتاب، لا في ماهيّته الحرفيّة وحسب، ولكن في هويّة الكتاب القدسيّة أيضاً. فعندما يروي لنا القرآن الكريم سيرة الصحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى، فإنه لا يستنزل الدلالة الحرفية في هذه الصحف، بوصفها صحائف مضغوطة في مخطوطات، ملفّقة بين دفّتي كتب، ولكنه يترنّم بوصايا هذين النبيّين، التي نستطيع أن نقرأها في سيرتهما الدنيوية، التي لا تلبث أن ترتقي إلى منزلة الحجّة الأخلاقيّة، أو الوصية الألوهيّة، كما يليق بكل سيرة نبويّة.

فمن منّا يرى في نفسه الشجاعة كي يسطّر الكلمة الأولى في صحيفة واقعٍ هو كتاب وجود؟

هولدرلين يهرع لنا بحجّته في قصيدته "هناك كنت شابّاً آنذاك" التي يتغنّى فيها بزمن الطفولة الضائع، عندما كان سليلاً لصيقاً بحضن أمه الطبيعة، يلهو في ربوع الآلهة، دون حاجة لاستخدام اللغة، يمارس حرية الحضور في جنان الوجود، بعيداً عن عون البشر.

إنها أنشودة في مديح الحكمة، المسكونة بتلك الفطرة التي تجعل من الطفل شيخاً في مقتبل العمر، كما لا تخذل المفطور عليها مع إدبار العمر، فتجود عليه بترياقها، عندما تحقنه بتعاويذها السحرية العفوية التي تُبقيه طفلاً ولو بلغ من العمر عتيّاً، لأن ما هي طفولة الروح في عمر الشيخوخة إن لم تكن حكمةً؟ وما هي الشيخوخة في مرحلة الطفولة إن لم تكن نبوءةً؟

لهذا السبب لا نستطيع أن نتصوّر إنساناً مثل سقراط إلاّ شيخاً في الطفولة، كما لم نعرفه في الشيخوخة إلاّ طفلاً. لأن الحكمة ليست سوى طفولة استعارت جرأة فعبّرت عن حُجّتها، والطفولة، بالمقابل، ليست سوى حكمة حجبت عن الخليقة وصيّتها. لهذا السبب، كما يبدو، يستهوينا ذلك الإغواء الشعري، أو النداء الرومانسي، الخبيء في أحجية الطفولة، فلا نكفّ عن التغنّي بها، والبحث فيها عن طلسمان فردوسنا المفقود. ولهذا السبب هي، في تجربتنا الوجودية، ليست مجرد كتاب، ولكنها أمّ الكتب!

والدرس الذي يحاول الشاعر أن يلقّنه لنا إنّما يترجمه لنا البيت البسيط، الأخير، في الأنشودة، بعد مرافعة مسهبة، تشرّفنا فيها بالحضور في طقس اعترافٍ وجيع، ستكون له آثاره التراجيدية في سيرة هذا الفارس، الذي لم يكن ليغترب عن واقع الأمّة الجرمانية إلاّ لهذا السبب: "im Arme der Götter wuchs ich gross".

(في أحضان الآلهة نشأتُ..).

وكان بالإمكان أن نتقبّل الخاتمة بتسامح لو لم يتعمّد إضافة كلمة  (gross) بعد النشأة. كلمة تبدو بريئة، تحمل معنى الإستواء، الناتج عن أيّة سيرورة نموّ. استواء في العود، في الهيكل، في الكيان، حرفيّاً، في القامة، ولكن هيهات أن يكون استواءً في تلك الروح التي تنكّرت لطبيعتها الفطريّة ففقدت لغتها العفوية، لغتها الألوهية، التي تباهت، في أبيات الأنشودة الأولى، بسعادتها لوجودها في محفل الألوهة، وجهلها، في المقابل، بلغة الخليقة، فإذا بها تتفاجأ باغترابها عن الحقيقة ما أن استوت، بالنشأة، في وجودٍ أفقدها لغة فُطرت عليها، واستمرأتها، طوال المرحلة التي جهلت فيها لغة الخليقة، لينتهي المطاف بحلول الدراما التي جرّدت الشاعر من مؤهّلاته الوجودية بعد أن أضاع لغة الآلهة، ولكنه لم يُحسن بالمقابل لغة الخليقة التي كُتب عليه، منذ الآن، أن تكون جواز سفره إلى عالم الخليقة.

وكان من الطبيعي أن تبدأ رحلة اغتراب الشاعر عن عالمٍ استأثر فيه غوته بلقية برومثيوس، ليحوم بقية المريدين خارج خشبة المسرح.

والسرّ كله في الحرمان من كلمة السرّ. الحرمان من خطاب الفطرة، لا لشيء إلاّ لأن رحمة الآلهة ألْهَتْ الشاعر عن حقيقته، فأنسته لغة الخليقة، ليجد نفسه بلا لغة ما أن أدرك منزلة النشأة، فيستيقظ من غيبوبته، ليجد نفسه طريد فردوسه؛ فلم يجد ما يفعله بنفسه سوى أن يعاند محنته، محاولاً أن يختطّ، بنزيف الروح، وصيّةً مشفوعةً بفجيعة أن يفقد الإنسان لغة الحقيقة، في واقعٍ يعتنق دين الخليقة، فينيب سيرته، لكي تكون شهادته، في مرافعة دفاعه عن حقيقته، لأنها، في واقع وجوده، هي كلمته، هي ترجمانه، هي كتابه، الذي لم يكتبه حرفاً، لأن الأبيات الشحيحة، في أناشيده المعدودة، لم تكن لتشفي غليل الظامئين إلى الحقيقة، لو لم يهرع عرّاب في حكمة مارتن هايدغر، ليعيد اكتشاف هذا الكنز النفيس من منفاه، كما اكتشف لنا أفلاطون طيفاً آخر في كتابٍ هو سقراط، ليبرهنا معاً كم هم غرباء أولئك الذين لم ينتموا يوماً لطينة هذا العالم، ولم يخطيء القدّيس عندما نصّبهم في الأرض ملائكةً يتنكّرون في أجرام بشر.

ملاحظة في شأن الإستواء:

الموقف من الإستواء رهين الصلة بمفهوم النشأة كبرهان على اكتمال النموّ. فالنصف الثاني من شطرة البيت المبثوثة في wuch  ich gross  لا تعبّر عن النّماء حتى في حال اعترفنا بها كسيرورة نموّ، لأن النموّ حتى  في العربية ليس هو النّماء، تماماً كما الإستقامة في عود القامة، ليس استقامة في المسلك الأخلاقي، سيّما عندما يتعلّق الأمر بإنسانٍ تربّى في أراجيح الألوهة، حتى إذا قاده الزمان إلى ربوع واقعٍ يهيمن عليه ما نسمّيه عقلاً، فوجيء بالعلاقة الطردية بين نموّ الحرف، ونموّ البعد المفقود، بوصف الأخير هو، لا سواه، رأسمال الوجود. فالنموّ في الهيأة، المعبّر عنه في اللغة الدنيوية بـ النشأة، وكذلك في الترجمة من الألمانية، ليس هو النموّ في المفهوم المتداول في وطن الألوهة، لأن غنيمة واقع الناس باطل أباطيل، فيما إذا قورنت بغنيمة الروح المعتمدة كقياس في واقع الفطرة. ومن الطبيعي أن يغترب نزيلنا الشقيّ ولا يعود ينتمي إلى عالمنا، لأن لغة الروح رطانة مستهجنة في دنيا، الحرف فيها هو الترجمان. ولذا فالإستواء هنا ضياعٌ، تيهٌ، ضلالٌ؛ بما هو اغترابٌ عن فردوس البراءة، بدل أن يكون مسيراً يقرّب أجَل الحلول في حرم البُعد الضائع. ذلك أن الإستواء على مستوى الحسّ، إنّما يتحقق على حساب الحرية المكفولة بحرف رحلة ديدنها التطوّر، ولكنها تخذلنا، لأنها تستنزف فينا خزانة الروح، لتتحوّل ردّةً تستهويها القطيعة مع ما عوّلنا عليه كقدس أقداسٍ، في صفقة الوجود، وهو الخطاب؛ لأن قصاص مَن اعتاد أن يخاطب الآلهة، هو أن يعجزه خطاب الناس. الخطاب المكتوم يسيرٌ أن ينزلق ليعبر إلى خانة المجال الغيبيّ، ليستعير، في هذا النعيم، الإعتراف بماهيّته ككتاب، بل وهوية الكتاب المقدّس.

فما هو الكتاب إن لم يكن احتفاءً بصنيعٍ هو حدَثٌ من صُنع صانعٍ، أهّله هذا الصنيع لكي يستعير هوية دينيّة، تستنزل فيه تميمةً سحرية، مشفوعةً بروحٍ شعريّةٍ، كي تجير من ورمٍ خبيثٍ هو النسيان؟.

سكاي نيوز عربية 

ثلاثاء, 10/11/2020 - 12:59