أميركا وأجراس إنذار ناشفيل

إميل أمين

صباح الجمعة، باكرًا  جدًّا، إنّه نهار الكريسماس، والجميع يَغُطّون في نوم عميق بعد سهرة الأعياد السنويّة، حتّى وإن كانت أعياد منزوعة الدسم من جَرّاء جنرالَيْن، أحدهما أحمر بلون الدم الذي يهاجمه في أجساد البشر متسبّبًا في جلطات مختلفة تُودِي بصاحبها، وجنرال أبيض قطع الطرقات بثلوج كثيفة.

وسط هذا  كُلّه، استيقَظَ سُكّان مدينة ناشفيل، عاصمة موسيقى الرّيف الأوربيّ على دَوِيّ انفجار هائل، أيقَظَ سكان المدينة وما حولها، جاعلاً من كريسماس الأضواء الخافتة، يومًا للهلع والذعر في أرجاء المدينة .

تتقافز الأسئلة على الأذهان، لا سيّما أنّ هناك العديد من النقاط المثيرة في المشهد، وفي المقدمة منها توقيت العمليّة، ومن هذا  الذي يَوَدّ أن يُعكِّر صفو أجمل أيام تعرفها الولايات المتحدة طوال السنة، ولماذا اختار هذه الولاية  تحديدًا، وتلك المدينة  المزدحمة بالكثير من المهاجرين من شتى  الأجناس والأعراق، وفيهم نسبة عالية للغاية من المهاجرين العرب، وهذه جزئيّة يمكن أن تُفَسَّر وتُؤَوَّل بصورة أو بأخرى .

والشاهد أنّه وإن كان العنصر المكانيّ له مغزاه ومبناه، والذي سيتّضح من خلال التحقيقات الجنائيّة حتمًا عَمّا قريب، فإن الجزء الزمانيّ من القضية يفتح شهيّة شيرلوك هولمز نفسه للبحث والتحرّي .. ما الذي نعنيه بذلك؟

يأتي التفجير في واحدة من أصعب وربّما أسوأ الفترات الرئاسيّة الانتقاليّة في تاريخ الولايات المتّحدة، ومنذ الحرب الأهليّة. وقد بلغ الأمر حَدّ توصذيف عراب العولمة الأميركيّة، توماس فريدمان، الكاتب الشهير، في صحيفة النيويورك تايمز، واصفًا الداخل الأميركيّ بأنّه بات يعيش حربًا أهليّة ثقافيّة، والسؤال: هل قَرّر أحدُهم أن يُحَوِّل الأمر إلى حرب عنف وسلاح ومصادمات بالفعل؟

الطرح المتقدّم يعني أنّنا نشير، ولو من جانب خفيٍّ، إلى احتمال أن يكون العمل من جانب بعض الجماعات اليمينيّة الأميركيّة الرافضة لنتيجة الانتخابات الأميركيّة، وأنّ العمل الإجراميّ هذا  هو نوع من الاعتراض عالي الصوت، وربّما تستتبعه أعمالٌ أخرى مشابهة في ولايات أخرى، ولقطع الطريق على ولاية يسيرة مريحة للرئيس المُنتخَب بايدن.

السيناريو المتقدّم تأخذه، ولا شكَّ، المباحث الاتّحاديّة الأميركيّة ضمن حساباتها. وليس سرًّا القولُ إن هناك توقُّعات لوزارة الأمن الوطنيّ الأميركيّ، رسمتْ سيناريوهات من هذه النوعيّة، وقد تمضي إلى ما هو أسوأ.

الدّوِيّ العالي للانفجار كشف لاحقًا عن أنّ وراءه كمّيّة غير مسبوقة من المتفجّرات، الأمر الذي يُذَكِّر بسيناريو كارثيّ جَرَى العام 1995، وفي 19 أبريل تحديدًا في مبنى في أوكلاهوما سيتي، وأَدَّى إلى قتل نحو 168 شخصًا، وأُصيبَ نحو 700 آخرين.

في مبتدأ ذلك الوجع، وكالعادة، أرتفعت أصوات محاولة إلصاق التهمة بالعرب والمسلمين، ولاحقًا اتَّضَح أن يمينِيًّا متطرّفًا يُدعَى "تيموثي ماكفاي" هو من قام بتنفيذ الهجوم، وقد تَمّ إعدامُه بعدها بستّ سنوات في يونيو من عام 2001، وتبيّن أنّه حصل على  كمّيّة كبيرة من المتفجرات من مؤيدين له.

لم تكنْ أميركا في منتصف التسعينيّات تعاني مثلما هي تعاني اليوم من المَدّ العالي، والاستقطاب السياسيّ غير الطبيعيّ، كما هو الحال الآن، وفي خلفية المشهد جماعات راديكاليّة أميركيّة تحتكم إلى العِرْق واللون، إلى الطائفة والمذهب، وجماعات عنصريّة ما أنزل الله بها من سلطان، لا تُخفِي دعواتها للانفصال عن الاتّحاد الأميركيّ، وتأسيس تَجَمُّعات أميركيّة معاصرة، أكثر بيوريتانيّةً، في عودة إلى أميركا  الأولى، وقبل أن تعرف الهجراتُ طريقَها إليها.

لا يمكن لأحد أن يقطع بالمَرّة إن كانت هذه الجماعات وراء الحدث، وإنْ بَقِيَ الاحتمال قائمًا بشدّة، ما يعني أنّ جرسًا أوّليًّا  للإنذار قد قَرَعَ، وأن هناك مخاوف جديدة وجِدّيّة من اندلاع صراع أهليّ أميركيّ داخليّ، لا سيّما وأنّ الرئيس ترامب قد مضى إلى إجازة الكريسماس، وترك وراءه من التساؤلات ما يزعج، بل إنّ هناك من يؤمن بأنّ الرجل سيحاول إغراق قارب بايدن قبل أن يترك البيت  الأبيض، ورغم نفيه لفكرة فرض الأحكام العُرفيّة في البلاد، وإلقاء القبض على من قاموا بتزوير الانتخابات، ثم إعادة الاقتراع من جديد، إلا أن هناك من يؤمن بأن شيئًا ما ستجري به المقاديرُ في الداخل الأمريكيّ على هذا النحو.

ماذا عن السيناريو الثاني، أي سيناريو العمل الدوليّ؟

تبقى كلّ الاحتمالات مفتوحة، وبخاصّة أنّ سياق الحدث كان معدًّا له بطريقة حرب العصابات، وبأكثر من تكتيكات الجماعات اليمينيّة الأميركيّة الداخليّة.

قبل الانفجار الكبير، كان هناك سماعٌ لدويّ رصاصات جلجلتْ في بواكير الصباح، الأمر الذي كان ولا بدّ له من أن يستجلب رجالَ الشرطة وبأعداد غفيرة، وكأنّ الرصاص كان بمثابة الفَخّ للقضاء لاحقًا على أعداد كبيرة منهم.

هل الأميركيّون أمام انتقام خارجيّ لطالما توعّدت به دولة بعينها، وهَدَّدت كثيرًا جدًّا بأنّها ستختار الزمان والمكان، للرد على ما أصابها في مقتلٍ منذ عام تحديدًا؟

لا أحد يستثني أيّ أحتمال في واقع الأمر، لكن في كلّ الأحوال تبقى الولايات المتّحدة أمام أمرَيْن أحلاهما مُرّ، وخياران كلاهما أعرج. فإن كان التفجير عملاً داخليًّا، فإنّ ذلك ينذر بالأسوأ الذي لم يأتِ بعدُ، وربّما يأخذنا في طريق التفكيك والتفخيخ الذي طالما تَحَدَّث عنه رجالٌ أميركيّون ثِقَات مثل عالم اللسانيّات، نعوم تشومسكي، وعلماء اجتماع عالمين، مثل النرويجي يوهان غالتونغ، والذي توقع  بانفراط العقد الاجتماعيّ الأميركيّ بحلول 2025.

أمّا إذا  كان العمل دوليًّا خارجيًّا، فذلك يعني كارثة أشدّ هَوْلاً، ودليلاً على أنّ الصراعات الأميركيّة الداخليّة، قد وَفَّرتْ ثقوبًا بل ثغرات، في جسد الأمن القوميّ الأميركيّ، والذي بات مستباحًا بصورة مخيفة، فقد جاء تفجير ناشفيل في ظلّ أجواء أكبر اختراق سيبراني تعرفه الولايات المتّحدة في تاريخها المعاصر، ما جعل بايدن يهدّد ويتوعّد الفاعل.

أجراس إنذار ناشفيل مزعجةٌ حقًّا، لا للأميركيّين فقط، بل للعالم برمته، إذ لا تزال واشنطن بيضة القبان الوازنة لاستقرار العالم، وأيّ إهتزاز لأوضاعها  وطباعها، ستكون عواقبه كارثيّة على بقية العالم، وتضحى معه خسائر العالم من انهيار الإتحاد السوفيتي مثل ألعاب الأطفال.

 أميركا مَدْعُوّة ومن جديد للمصالحة الداخليّة والقفز فوق الضغائن، فهل لا تزال هناك فرصة سانحة؟

سكاي نيوز عربية 

اثنين, 28/12/2020 - 16:18