الأحلام العقارية!

خالد الفاظل

عندما راجت معاملات مكتب الشيخ الرضى البهلوانية وأقبل الناس عليها أفواجاً يشتهون الربح عن طريق بيع أشياءهم فوق ثمنها الحقيقي! كأن تبيع علبة كبريت -مرسوم عليها رجل يرتدي سروالا قصيرا ويحمل جرتين- ثمنها في السوق 10 أواقي فقط مقابل 3000 أوقية تسدد إليك في أجل مسمى. كان البيع مغموسا في الجنون، خاصة بأن المشتري هو نفس الجهة التي تقوم بنفس العملية مع زبناء كثر مع أنها لا تمتلك أي مخزون استثماري ملموس يمكنه أن يعوض ما سيتكشف من خسائر متوقعة لاحقا تكون فداءً للمكتب عندما تتكدس الديون داخل عنق الزجاجة مثل غصة رجل بقطعة لحم عند أصهاره. لكن الناس كانوا يدخلون عمق العملية وفي مخيلتهم الأرباح وحسب..
أوائل 2018 دعاني صديق أثق فيه للاشتراك معه في شركة للتسويق الشبكي مقابل مبلغ مالي معتبر. وكان الحماس غشاوة على عينيه كأنه يلمح مقعده في طائرة خاصة تزاحم الغربان فوق مجابات "الرگیبة". شرح لي بأن الارتقاء في جني المداخيل يعتمد أكثر على القدرة على جلب مشتركين جدد. شخص عن يمينك وآخر عن يسارك وكلاهما يجلب اثنين في متتالية اجتماعية لا حد لها تشبه التحديق في مرآة كبيرة تتصدع باستمرار، فيتكاثر وجهك باستمرار مثل وجه "بروس لى" في فلمه الشهير. لكن؛ عندما تكلم لي عن البضائع التي تسوقها الشركة لم تبدو لي بتلك الأهمية في السوق، فلم ارتح وأتشجع. وفهمت أن أغلب أربحاها ربما يكون مستمدا من اشتراكات الزبناء الجدد. لكنني لم أفقد الحماس وبحثت بروية داخل الانترنت، وخلصت إلى أن الأمر يشبه الدوامة ولن يريحني نفسيا حتى ولو كانت ثمة أرباح مادية. فأحجمت وتركت الأمر جانبا وقبل شيوع هذا النوع من الشركات لدى الحالمين بالثراء العجول.
لدي قاعدة في الحياة، اي خطوة أقوم بها أحاول دراسة بيئتها الحقيقية أولا، ولا يتنافى هذا مع أهمية المجازفة والمخاطرة في حياتنا لبلوغ أهداف معينة في حضور المنطق طبعا. لذلك أعتقد أن من أكبر مشاكل تعليمنا هو تقزيم عنصر المحاججة والمنطق في المناهج التربوية، التلاميذ لا يغوصون في عمق المادة المقدمة بالأسئلة والنقاش، والأستاذ يمارس الاستبداد التربوي عند تقديم معارفه المعلبة مع تهميش مقلق للمختبرات والفلسفة. فأصبح المجتمع مشلول مستقبلات الفكر والتدبر والتفكر ومستعبدا للأوهام وليست لديه القابلية لتفكيف ما يقدم له بالحجج والتفكير والبراهين قبل أن يبتلعه، ويستهويه النظري أكثر من التطبيقي.
كان ذلكم المبتدأ وإليكم الخبر:
أيام معاملات الشيخ الرضى، كنت مدرسا طازجا ولدي أفكار الموظفين الحالمين في الاستثمار البطيئ في سوق العقار. وأظن أنه من أغبى أنواع الاستثمارات التي يقوم بها موظفو  ضواحي الوظيفة العمومية هو شراء قطعة أرضية وتركها للزمن حتى يرتفع سعرها وتحت تربتها رأس مال مشلول اللهم إذا كان مبتغاهم من الخطوة النجاة من الكراء. المهم؛ اشتريت قطعة أرضية عارية كصلعتي في أعماق توجنين وتركتها نائمة عسى أن تنبت فيها دار من الاسمنت بالصدفة ثم تنمو لتتحول لعمارة من سبعة طوابق أقوم بتأجير شققها للأسر الصغيرة السائرة في طريق النمو. دارت الأعوام، واكتشفت بأن العاصمة بلا قلب وطحال وأرجل وأظافر وأنها تتمدد نحو القفار كأمتعة الأسلاف، تمدد أفقي يخاف السماء. عاصمة مجنونة ومنازلها كأمتعة المسافرين لا تنوي المكوث مطولا في الانتظار. ذات مساء قررت بيع القطعة الأرضية لكن أسعار العقار كانت في الحضيض بسبب الأزمة العقارية التي تسببت فيها "بيوع الرضى" التي تنامت على مرئى ومسمع من عيون الدولة المليئة بالقذى. رغم إدراكها بأن هذه المعاملات تشبه السيارة التي تسير بسرعة فائقة في طريق نهايتها مسدودة بالأسمنت المسلح، ويوما ما لابد أن يحدث صدام بين الدائن والمدين يهتز له المجتمع العميق، هزة ربما تكون سلبية في ظاهرها لكنني أجدها إيجابية في مآلاتها.  فهذه الهزات التي تحدث بين الفينة والأخرى هي الكفيلة بتحريك ما ترسب في عمق المجتمع من أوهام سامة وسيساعد في تسريع الوعي المجتمعي الذي بطبيعته لا يمكن تسريعه بالصدام الطفولي وابتلاع الحداثة قبل تنقيتها هي الأخرى من الشوائب الكثيرة العالقة بها. الوعي بقيم العدالة يحتاج صبرا طويلا وتراكما للمحن بشكل أفقي في المجتمع. إن معركة التغيير تراكمية وبطيئة. وكما قال الرئيس السابق معاوية: " انجي آن وأندير عود ويجي مسعود يدير عود" 
عندما لم أجد مشتريا للقطعة، قلت في نفسي يكفيني هذا من الأحلام العقارية وأعطيت القطعة لأحدهم وأعلنتها "توبة عقارية". اللهم إذا كانت قطعة أرضية على سطح القمر اشتريها دون سلفة من البنك من عند سنغالي كان يبيع فوقه حزما من الفول المقلية(مرباقة) صعد إليه داخل مركبة فضائية سنغالية مسحها أحد شيوخ الصوفية هناك بمسبحته "ليباركها".
 هنا وكر البروجوازين(صكوكو). لا زلت أذكر ملامح ذلك البائع المتجول الذي اقتحمني وأنا أتبضع عند باعة الملابس المستعملة عند الأرصفة، وهو يحمل عصا علق عليها حزما من تمر جاف وأخرى من الفول وقال لي دون مقدمات: " الحياة صعبة ماذا ستفعل الدولة معنا؟". بتلك اللحظة شعرت بحزن ممزوج بالشفقة وقلت له: "خم"
الساعة 21:50 وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم

اثنين, 28/12/2020 - 16:45