حمى الأنساب

أحمد ولد المصطف

يكثر الحديث هذه الآونة، و على هذا الفضاء بشكل خاص، عن الأنساب، و لا ضير في ذلك لو نحا الموضوع منحى علميا و تفادى الوقوع في النقاش الذي لا ينور العقول و لا يخدم تقدم الوعي و العلم.
هنا يجب التفريق بين عدة مستويات من الأنساب (الانتماء)، لكل منها مجالها و أدواتها العلمية التي يمكن أن تسبر أغوارها و توضح خفاياها.
المجال الأول هو مستوى الانتماء الشخصي أو الأسري الضيق، حيث يمتلك كل شخص أو أسرة شجرة نسب تلتقي بشجرات نسب أخرى لتشكل الأسرة الممتدة ( المجموعة / القبيلة) التي لها جد جامع بعيد، حقيقي أو متخيل. في الغرب يوجد متخصصون في الأنسابgénéalogistes  باستطاعتهم رسم شجرة نسب لكل شخص، و على مدى قرون، انطلاقا من قواعد بيانات مستمدة من مصادر مختلفة: الحالة المدنية، الوثائق الإدارية، السجلات الرسمية، إلخ.
في ثقافتنا الشفهية يتم رسم شجرات النسب على أساس الروايات المنقولة عبر الأجيال و قد تستند على شجرات نسب مكتوبة، مع أن أقدم هذه الأخيرة يعود إلى القرن الثامن عشر، أي بعد تعرب أغلبية سكان هذه الربوع، و هو تاريخ قريب نسبيا. 
 في شجرات النسب هذه قد نجد علاقة نَسَبِيَّة بين عدة أجداد لقبائل أو مجموعات مختلفة تربطها بمكون عرقي / أثني معين: عربي، صنهاجي/ أمازيغي،  سامي، حامي (زنجي)، حامي ـ سامي، آري، إلخ.
المجال الثاني من الانتماء هو انتماء هوياتي / ثقافي، و يعتبر المحدد الأبرز فيه هو اللغة، إذ يعتبر عربيا أو أمازيغيا أو بولاريا أو سوننكيا أو وولفيا، إلخ. من تكون إحدى اللهجات العربية أو الأمازيغية أو البولارية أو السوننكية أو الوولفية، إلخ. لغته الأم، بغض النظر عن أصوله العرقية الفعلية.
المجال الثالث من الانتماء هو انتماء بيولوجي / جيني و تحدده الخريطة الجينية التي ينتمي لها الشخص الذي يرغب في معرفة هذا النوع من الانتماء و الذي يتم الكشف عنه عبر إجراء فحص على الحمض النويDNA  في مخابر متخصصة لهذا الغرض. هذا النوع من الفحوص متاح في العديد من البلدان لمعرفة درجة الانتماء لأي الأعراق البشرية الموجودة، و قد تخالف نتيجته كل توقعات الشخص عن نفسه.
في هذا الإطار، كنت في مدريد عاصمة إسبانيا سنة 1998 و طالعت بحثا علميا نشر في جريدة الباييس ذائعة الصيت عن الأصول الجينية للإسبان بشكل خاص و سكان الجزيرة الإبيرية بشكل عام خالفت خلاصاته غالبية التوقعات عن أصول هؤلاء السكان. فقد كشفت أن أكثريتهم يشتركون في الخصائص الجينية لسكان شمال إفريقيا، و بالأخص سكان الجزائر!
يبدو أن هذه الحقائق العلمية لم تكن يتوقعها الكثير من الإسبان، خصوصا في فترة كان الكثير منهم يعترون أنفسهم أوروبيين بكل المقاييس الثقافية و التاريخية و العرقية، باستثناء الباسك الذين يشكلون حالة خاصة.
و عليه يتعين إخضاع موضوع الأنساب لميزاني النِّسْبِيَّة و العلم و عدم جعل منه قضية تثير الجدل و يشتغل بها الناس عن القضايا الأهم، لأن أدوات العلم اليوم أصبحت فعالة في هذا المجال. ثم إن القبائل التي تشكل الوحدات الاجتماعية المحددة للنسب في المكون الناطق بالحسانية من مجتمعنا هي كيانات سياسية بامتياز و تأسست على رابطتي النسب و العصب، و في أحايين كثيرة يكون العصب على نفس مستوى النسب، بل قد يتجاوزه.
ولنا في ديننا الإسلامي الحنيف ما يعزز ذلك: فقد قال تعالى في محكم كتابه: " يَأيُّها النَّاسُ إنَّا خلقناكم من ذكر و أنْثَى و جعلناكم شعوبا و قبائلَ لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم". صدق الله العظيم. كما أن ثقافتنا تفضل العصامي على العظامي شعرا و نثرا،  و تدعو الإنسان إلى الاعتداد بذاته و عدم التعويل كثيرا على إرث الأجداد.

سبت, 13/02/2021 - 11:50