في مديح القرن العشرين

مالك التريكي

ربما لم يسمع معظم الناس خبرا سارّا منذ عام. لا أتحدث عن دكتاتورية الكآبة الشاملة التي أسسها الوباء. فتلك دكتاتورية انقلابية لا تني توهن النفس وتبعث اليأس، سواء بأخبار أم بلا أخبار. وإنما أقصد هذا السيل من أخبار النعي والرحيل. إذ لا يكاد يمر يوم إلا تناهى إلينا نبأ وفاة علم من أعلام الثقافة أو الفن أو الحياة العامة. فقد أعلنت في الأيام الماضية أنباء وفاة الفنان المصري عزت العلايلي (بعد مدة قصيرة من رحيل زميله محمود ياسين) والفنان اللبناني ميشال ثابت (الذي كان «امرؤ القيس» و«ليلى والبرّاق» من المسلسلات التي حبّبته إلينا في الصغر) والمخرج التونسي عبد القادر الجربي (بعد شهور من رحيل زميله صلاح الدين الصيد، حيث أخرج كلاهما كثيرا من المسلسلات القيّمة، إضافة إلى أنهما تناوبا على إخراج «شوف لي حل» أنجح مسلسل اجتماعي فكاهي في تاريخ التلفزة التونسية) والمخرجة التونسية مفيدة التلاتلي (التي عرفها الجمهور أول الأمر بفيلم «صمت القصور» الذي احتضن الإطلالة الأولى للصبية التونسية هند صبري التي ستصير بعدها إحدى ألمع الممثلات العربيات حسن أداء فني ومتانة تكوين ثقافي) والبرلمانية التونسية محرزية العبيدي (التي شهدت محاضرتها في تشاتهام هاوس في لندن، فكانت تلك آخر زيارة أتمكن من القيام بها للمعهد قبيل زمن الكورونا). كما رحل الخبير الاقتصادي المدير السابق للبنك المركزي التونسي الشاذلي العياري، والمحامي التونسي حسن الغضباني الذي كان من مؤسسي حركة الاتجاه الإسلامي (النهضة لاحقا) وبكّر بمغادرتها منذ أواخر السبعينيات عقب خلاف مع راشد الغنوشي. وكان رحيل الفنان والمخرج السوري المتميز حاتم علي قد أفجع قبل ذلك معظم العرب.
وممن رحلوا قبل أيام الكاتب الفرنسي الموسوعي جان كلود كاريار. أقول «كاتب» لأنه روائي ومؤرخ ومترجم ومؤلف مسرحي وسيناريست سينمائي ومخرج وممثل، بل وناظم أغان (لجولييت غريكو)… وليس كل ذلك، على كثرة تنوعه واتساع مداه، إلا تجليا خارقا من تجليات الكتابة وتوهجاتها. ألف كاريار ستين سيناريو وثمانين كتابا! وعمل مع أعلام الفن السينمائي من أمثال الإسباني لويس بونويل، والفرنسيين لوي مال وجاك دوري، والألماني فولكر شلوندورف، والبولندي أندرجاي فايدا (واجدا).

القرن الوحيد الذي استحدث كتابات جديدة. إذ لو كنا في أواخر القرن 19 لما كان لدينا إلا الأدب والمسرح. لكن ما أن بدأت السينما في الظهور، مع بدايات القرن العشرين، حتى توالت الاختراعات التقنية التي استلزم كل منها استحداث كتابة، أو لغة، جديدة

فكان له مع بونويل روائع مثل «يوميات خادمة منزلية» و«سحر البورجوازية الخفي» و«ذلك الموضوع المبهم للرغبة». أما أهم عمل أنجزه مع المخرج البريطاني بيتر بروك فلا شك أنه يتمثل في كتابة سيناريو لملحمة الماهابهاراتا الهندية العريقة (ذات الأغراض التأملية العميقة في قضايا الإنسان الكبرى: المقصد واللذة والواجب والتحرر) التي استغرق عرضها في مهرجان المسرح في مدينة أفينيون الفرنسية، عام 1985، ما لا يقل عن تسع ساعات! ومع ذلك فقد نالت إعجاب الجمهور، وبلغت من النجاح حدا أوجب إعادة إنتاجها في شكل سلسلة تلفزيونية من ست حلقات، ثم فيلم سينمائي يستغرق ثلاث ساعات. وقد أدت هذه التجربة بكاريار إلى اكتشاف فريد الدين العطار والأودية السبعة، فتعاون مع بروك على اقتباس «منطق الطير» وإخراجها للمسرح. وليس أدل على قوة أثر الشاعر الفارسي في وجدانه من أن آخر كتبه قد كان بعنوان «وادي الفناء». ومن الأفلام الأخرى الكثيرة التي كتب لها كاريار نص السيناريو فيلم تلفزيوني مقتبس من رواية فلوبير الشهيرة «بوفار وبيكوشي» وذلك الفيلم الجميل المستمد من رواية ميلان كونديرا «خفة الكائن التي لا تطاق» من إخراج فيليب كوفمان وبطولة جولييت بينوش ودانيال داي لويس.
وفي تعليل هذا النهم الاستثنائي لكل أنواع الإبداع، يقول كاريار إنه ولد في «القرن الوحيد الذي استحدث كتابات جديدة. إذ لو كنا في أواخر القرن 19 لما كان لدينا إلا الأدب والمسرح. لكن ما أن بدأت السينما في الظهور، مع بدايات القرن العشرين، حتى توالت الاختراعات التقنية التي استلزم كل منها استحداث كتابة، أو لغة، جديدة». فكم من الكتّاب قال مثل هذا؟ إنه لعمري من أجمل ما مدح به القرن العشرون، ولو أني أرى أنه لم ينل بعد حقه من المديح.
ويكفي لمن يريد اكتشاف كاريار من العرب أن يقرأ كتابه، أو يشاهد فيلمه، عن «مناظرة فيادوليد» التي وقعت منتصف القرن 16 بين عالمي دين إسبانيين بشأن أهالي القارة الأمريكية: هل هم بشر لهم أرواح؟ وهل قصدت العناية الإلهية أن تستثنيهم من ملكوتها أم أن تشملهم ببشارة المسيح؟ أما الأثر الآخر فهو الكتاب الحواري بين كاريار والعلامة الإيطالي أمبرتو إيكو حول مركزية الكتاب في الحضارة الإنسانية، وما فتح به عليه العصر الرقمي من آفاق جديدة وإمكانات خلاقة. بشرى يزفها العنوان: «هذه ليست نهاية الكتاب».

القدس العربي

سبت, 13/02/2021 - 13:10