البعد الفلسطيني في الانتخابات اللبنانية

سعيد الشهابي

بلد صغير كلبنان، لماذا حظيت انتخاباته البرلمانية الأخيرة بالاهتمام الذي تجلى على ألسنة السياسيين الغربيين ووسائل إعلامهم؟
هذا التجلي كان واضحا قبل التصويت وبعد إعلان النتائج. ولم تستطع الدوائر المهتمة إخفاء ارتياحها لما اعتبرته «خسارة» برلمانية للأطراف المحسوبة على تيار «المقاومة» فما أن بدأ فرز الاصوات بعد انتهاء التصويت مساء الأحد 15 مايو حتى بدأت ردود الفعل تظهر بوضوح، وتواصل الحديث عن مستقبل التوازنات داخل البرلمان الجديد وكيف سينعكس ذلك على الوضع اللبناني بشكل عام. فلم تكن الانتخابات هذه المرة ممارسة آلية، بل فحصا لهوية لبنان وموقعه في التوازنات والصراعات الإقليمية خصوصا مع «إسرائيل». إن النظرة الموضوعية لنتائج الانتخابات تكشف حقائق عديدة لا تبرر حالة البهجة التي افتعلتها الأطراف التي يمكن اعتبارها ضمن محور قوى الثورة المضادة بزعامة الولايات المتحدة. وهنا تجدر الإشارة إلى حقائق ذات صلة بالانتخابات ونتائجها وتوازنات المنطقة، والتطورات التي طرأت على ساحة الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي:
أولها: أن جوهر المشكلة يتصل بمسألتين أساسيتين، إحداهما قديمة والأخرى جديدة. فمنذ استقلاله قبل ثمانية عقود (1943) قام الكيان اللبناني على أسس من الحرية النسبية والممارسة الديمقراطية. ونتيجة لطبيعة مكوناته وتعدد انتماءاتهم الدينية والمذهبية، نشأ نظام سياسي يتسم بالمحاصصة والطائفية السياسية. وبرغم سلبية تلك الممارسة، ولكنها ساهمت في بقاء البلد موحدا ضمن حدوده وأطره السياسية، مع ضمان هوية مكوناته وحقوقهم. وقد وفّرت تلك الأجواء لأجيال متعاقبة من الطلاب والمثقفين والإعلاميين العرب التنفس من خلال الرئة اللبنانية التي تتيح لهم استنشاق عبير الحرية عبر صحافته الحرة وتعدد نسائمها السياسية والايديولوجية. ولم تكن أجواؤه محل قبول لدى أنظمة الحكم العربية التي رأت فيها تهديدا لوجودها. فما أكثر الذين كتبوا في وسائل أعلامه وشاركوا في مؤتمراته وتحدثوا من منابره في ظروف كانت أجواء البلدان العربية مغلقة تماما. وما أكثر من استقبلهم لبنان من اللاجئين الذين فرّوا بجلدهم من بلدانهم المحكومة بالاستبداد. كانت بيروت ساحة للاصطفافات الحزبية والإيديولوجية خصوصا في حقبة الحرب الباردة التي زخرت بالصراع الفكري والسياسي حتى على الصعيد العربي. ولكن الوضع كان تحت السيطرة، فالتزمت الأنظمة العربية الصمت، خصوصا أن نجم لبنان بدأ يأفل مع دخوله حقبة الحرب الأهلية في 1975.
ثانيها: أن المرحلة التي أعقبت الحرب الأهلية شهدت صعودا لظاهرة المقاومة التي انطلقت بعد أن تراجع مشروع «الكفاح العسكري» الفلسطيني مع بداية الثمانينيات. وهنا كانت ولادة مشروع المقاومة بتأسيس حزب الله، الذي ترسخ تدريجيا حتى أحدث تغيرا جوهريا في موازين القوى الذي كان مرجِّحا للكفة الإسرائيلية. وتكرست صورة هذه المقاومة كقوة عربية رادعة بعد حرب 2006 التي خاضها حزب الله ضد العدوان الإسرائيلي، وازدادت رسوخا بعد حربي 2008-2009 و 2014. وهكذا أصبح ما يسمى «توازن الرعب» احد مظاهر الحقبة الحالية التي لم تعد «إسرائيل» قادرة على كسر شوكة قوى المقاومة.

الأمر المؤكد أن قضية فلسطين ستبقى التحدي الأكبر لدول العالم، برغم الجهود المتواصلة من قبل أمريكا وحلفائها لخلق بيئات محلية وإقليمية لترويج مقولة السلام مع «إسرائيل»

ثالثها: أن لبنان بقي ساحة للتنافس الاقليمي فترة طويلة، خصوصا بعد دخول «قوات الردع العربية» في العام 1976 بعد اندلاع الحرب الاهلية. وحيث أن أغلب تلك القوات كان سوريّا، أصبح لبنان تحت ما يمكن اعتباره «هيمنة سورية» استمرت حتى خروج تلك القوات في 26 ابريل (نيسان) 2005 في إثر اغتيال رئيس الوزراء الأسبق، رفيق الحريري. وعلى مدى العشرين عاما الماضية بقي لبنان محكومات بتوازناته الداخلية وتنافس القوى الإقليمية الخارجية، خصوصا السعودية وإيران من خلال المجموعات التي يرعاها كل منهما.
رابعها: أن مجموعات المقاومة الفلسطينية واللبنانية بقيت في جنوب لبنان برغم الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982، الذي أدى لانسحاب الوجود الفلسطيني السياسي والعسكري إلى تونس. وبشكل تدريجي تأسست مقاومة لبنانية مستقلة ضد الاحتلال الإسرائيلي، استمرت في تصديها له حتى أرغمته على الانسحاب في العام 2000. وقد توسعت أطر المقاومة بعد ذلك حتى تحولت إلى ما أصبح معروفا بـ «محور المقاومة». هذا المحور أعاد للمنطقة حالة استقطاب ايديولوجي وسياسي لغير صالح الاحتلال.
خامسها: أن الولايات المتحدة الأمريكية في السنوات الأخيرة، خصوصا في عهد الرئيس السابق، دونالد ترامب، تبنت سياسة جديدة لمواجهة «محور المقاومة» على صعدان ثلاثة: تأسيس محور التطبيع بموازاة «محور المقاومة» ونجم عن ذلك هرولة غير مسبوقة نحو الاحتلال، مُحدِثا خللا بنيويا بمجلس التعاون الخليجي الذي أصبح مستقطبا بين محورين.
في هذه المعادلات الجديدة بدأ تحالف قوى الثورة المضادة يستهدف لبنان الذي يعتبره «أرضا رخوة» تنشأ فيها التوجهات الرافضة للاحتلال الإسرائيلي. وهكذا ازداد الوضع اضطرابا، وتصاعدت المناوشات السياسية والميدانية ضمن حرب غير معلنة في بلدان مثل العراق ولبنان واليمن. وهذه البلدان كانت من الدول القليلة التي تمارس قدرا من الحرية والديمقراطية، ولاحظ الغربيون أن الحرية تتناقض مع مشروع الاحتلال ومصالحه.
فحتى في فلسطين نجم عن هذه الظاهرة بروز اتجاهات لا تنسجم مع السلطة الفلسطينية التي تسعى للتعايش مع «إسرائيل» فيما لو أتيح لها إنشاء وجود فلسطيني «مستقل». وكان من نتائج ذلك ظهور حركات المقاومة الفلسطينية في أطرها الحديثة ومنها حركتا حماس والجهاد الإسلامي. وفي السنوات الخمس الأخيرة تكثفت الضغوط على لبنان لإبعاده عن «محور المقاومة» وجرّه إلى «محور التطبيع». ولكن ذلك كان صعبا بسبب الحالة الشعبية التي تتمتع بها المجموعات التي تتبنى المقاومة وتصر على رفض الاحتلال وعدم الاعتراف بـ «إسرائيل». فتم استهداف لبنان اقتصاديا وسياسيا، من قبل الولايات المتحدة المتحمسة لإنهاء القضية الفلسطينية بفرض «إسرائيل» ضمن النسيج السياسي الإقليميي، مدعومة بحلفائها الإقليميين. وتم تركيز الجهود السياسية والمالية لإحداث تغيير بنيوي في التركيبة السياسية بإنهاء سيطرة تحالف محور المقاومة على البرلمان. هذه المرة تم استهداف حلفاء التحالف من المسيحيين بشكل خاص، فجاءت نتائج الانتخابات كما جرى. فبينما احتفظ حزب الله حركة أمل بنصيبهما من المقاعد، خسر حلفاؤهم بعض المقاعد.
فكانت هذه النتائج مفزعة للجميع، أدخلت لبنان مرحلة مضطربة شبيهة بالعراق. فليست هناك قوة واحدة تمتلك غالبية الأصوات لتستطيع إدارة البلاد بشكل فاعل. فقد خسر تيار 8 آذار عددا من مقاعده وبذلك فقد التيار الذي يقوده حزب الله وحركة أمل الأكثرية النيابية التي كانت لديهم طوال سنوات، أذ كان لديهم 71 مقعدا بينما انخفض ذلك إلى 62 مقعدا، أي أقل من نصف مقاعد البرلمان وعددها 128. لكن هذه الخسارة لم توفر لأمريكا وحلفائها وجودا برلمانيا حاسما، اذ من غير المتوقع حدوث تغير جوهري في التوازنات السياسية، ومن المرجح بقاء تيار المقاومة محصّنا ضد أية محاولة لتدميره او اقصائه. كما أن من غير المتوقع أن يتوجه لبنان نحو التطبيع مع «إسرائيل» برغم أن ذلك يمثل هدفا استراتيجيا للسياسة الأمريكية في المنطقة. وكما أن أمريكا ستعجز عن دفع العراق نحو التطبيع، فسيحدث الأمر نفسه مع لبنان.
الأمر المؤكد أن قضية فلسطين ستبقى التحدي الأكبر لدول العالم، برغم الجهود المتواصلة من قبل أمريكا وحلفائها لخلق بيئات محلية وإقليمية لترويج مقولة السلام مع «إسرائيل».

نقلا عن القدس العربي

 

اثنين, 23/05/2022 - 09:47