الأطفال المدللون الذين زاوجوا بين الأمركة والصهينة

محمد عبد الحكم دياب

مجتمع المال والأعمال في مصر هو الأغرب، وكان وما زال الأكثر اندفاعا نحو الأمركة والصهينة، وهو دائم العمل لمصالحه الضيقة بغض النظر عن مدى سلامتها الوطنية والإنسانية والأخلاقية.. وهذا مجتمع اعتاد التكسب من شقاء الأجراء وعرق المنتجين، وهناك من يفلسف ذلك لإكسابه شرعية زائفة، ومشكلته في انحيازه الأعمى لأعداء الوطن والأمة، وتفانيه في خدمتهم، ومنذ ظهور طلعت حرب (1867 ـ 1941) مؤسس بنك مصر ومجموعة الشركات التابعة له، وكان صاحب مدرسة تحرير الاقتصاد الوطني من التبعية الأجنبية، منذ ذلك الوقت لم يظهر أحد بمستوى وعيه وفهمه لدور المال ووظيفته الوطنية والاجتماعية.
فضائح وجرائم مجتمع المال والأعمال المصري زكمت الأنوف وأصابت النفوس بالغثيان.. وإذا ما تم رصد أحوال مصر منذ صعود جمال مبارك إلى منصب «الرئيسٍ الموازي»؛ وبدء تحكم هذا المجتمع الظالم في السياسة والاقتصاد والمال والإدارة، فعم النهب وتفشت السرقة وزادت الملاحقة، واستفحل أمره بـ«شيطنة» ثورة يناير ووأدها في مهدها، وانتكست الأوضاع بإسناد أمر الاقتصاد والمال إلى عناصر أشبه بالمرابي «شيلوك» في رائعة وليام شيكسبير «تاجر البندقية».
ومن بين هذا المجتمع «المسرطن» نختار «أبناء ساويرس» كظاهرة جسدت التبعية وارتبطت اقتصاديا بشركات صهيونية.. وكل «أبناء ساويرس» مشاهير وأشهرهم ذلك «النجيب» الذي ليس له من اسمه نصيب، وهو يوصف بـ«الجوكر»، وهي ورقة لعب زائدة يمكن الاستغناء عنها أو استبدالها بغيرها، وأهميته مصدرها عدم جدواه، وقوته في استبداله في أي لحظة أثناء اللعب.. ويُرسَم في هيئة أحد مهرجي العصور الوسطى؛ يرتدي قبعة، تتدلى منها أجراس ملونة، وفي العرف العام يعتبر الجوكر شخصا محتالا ومخادعا.
وملف «أبناء ساويرس»؛ مليء بالعجائب والوثائق والروايات، وهم من جهة يعتبرون أنفسهم «جرحى» ثورة يوليو 1952.. ومن جهة أخرى يدعون أنهم بدأوا امبراطوريتهم المالية من الصفر.. والمعروف أن أنسي ساويرس عميد الأسرة ذهب لليبيا في ستينيات القرن الماضي بحثاً عن العمل والرزق، واستطاع مد جسوره مع الدوائر الأنكلو أمريكية، مستغلا انتعاش سوق النفط في ثاني أكبر بلد منتج له في أفريقيا، وكانت أسعاره قد قفزت لأكثر من خمسة أضعاف بعد حرب 1973، وكانت فترة شهدت انتقال الاقتصاد المصري «من الاستقلال إلى التبعية»، حسب قول عادل حسين في كتابه الذي حَمل نفس العبارة عنوانا له، وغرقت مصر في عشوائية «الانفتاح»، الذي وصفه الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين بـ«السداح مداح». وسقطت في تشابكات العلاقات المعقدة بواشنطن؛ ثم دخلت على خط «الصهينة» بزيارة السادات للقدس المحتلة، وإلقاء خطابه بالكنيست عام 1977. 
وارتبطت عودة عميد أسرة ساويرس لمصر بـ«التطبيع» وتوقيع معاهدة «كامب ديفيد»، ووجد أنسي ساويرس في العودة في ذلك الوقت فرصة المشاركة في استغلال خيرات البلاد، وبرز دور الأبن الأكبر للأسرة نجيب في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وفور حصوله على الجنسية الأمريكية بطريقة لم يُفْصَح عنها حتى الآن، فور ذلك أسس شركة «كونتراك الدولية المحدودة»، بمدينة أرلنغتون، بولاية فرجينيا.. وحصل على مقاولات كبرى؛ تمولها الحكومة ووزارة الدفاع الأمريكية، ولعبت «كونتراك الدولية المحدودة» الدور الأكبر في بناء إمبراطورية «ابناء ساويرس». وهكذا كانت البداية أمريكية. 
وفي آب/أغسطس 2008 نشرت صحيفة «معاريف» الصهيونية خبرا عن استثمارات نجيب ساويرس في الدولة الصهيونية، ووجد من يؤازره ويدافع عنه، وهو رئيس مجلس الأعمال المصري الكندي، واسمه معتز رسلان، الذي قال: إن العمل مع تل أبيب «لم يعد أزمة بعد التطبيع بين الدولتين، وإبرام اتفاقية الكويز فتح الباب واسعا للتعاون المصري الصهيوني»، حسب ما جاء في صحيفة «اليوم السابع» وقتها، وأضاف رسلان «أن هناك 10 آلاف رجل أعمال مصري يعملون مع الصهاينة، وفي مشروعات في صلب الاقتصاد المصري» مبررا ذلك بـ«الضرورة الاقتصادية، خاصة أن نصف البضائع الزراعية مصدرها صهيوني، وهذا يعنى أن السوق المصري في حاجة للتعاون مع تل أبيب» من وجهة نظره، وتمادى بالقول: «إن منع التعامل المصري الصهيوني لابد أن يكون قرارا من الحكومة المصرية، ومادامت سمحت بالتعامل من البداية فلا يوجد أي ضرورة لمنع التعامل معهم، وأنه من أول المستعدين للتعامل مع الاقتصاد الصهيوني إذا كان ذلك سيأتى من ورائه الخير للبلد أو للاقتصاد»(!!).
وكان ذلك إعلانا صريحا بمزاوجة «أبناء ساويرس» الأمركة بالصهينة رسميا، وانتقلوا من أعمال المقاولات والاتصالات والسياحة إلى تجارة الإعلام والسياسة والثقافة بعد ثورة يناير.. وكان «أبناء ساويرس» وبالا على الثورة الموءودة، وتمكنهم من خداع شباب الثورة ونسائها ورجالها وشيوخها.. ونصَّب «الأخ الأكبر» نجيب ساويرس نفسه زعيما لـ«الليبراليين الجدد» في مصر و«القارة العربية» وإقليم الشرق الأوسط!!. 
توسعت أعمال «أبناء ساويرس» من منتصف ثمانينيات القرن العشرين، فاحتكروا تجارة برامج الكومبيوتر. وأبرموا الصفقات مع شركتي «هيوليت ـ باكارد» و«مايكروسوفت»، واتفقوا مع شركتي «سيسكو سيستمز» و«لوسينت» الأمريكيتين على بيع أجهزة تكنولوجيا المعدات والمعلومات. وانتقلت «أوراسكوم» من شركة يعمل بها خمسة أفراد في سنة 1980 إلى إمبراطورية عملاقة خلال أقل من عشرين سنة من عام 1985، وهي السنة التي دخلت فيها ميادين العمل الأمريكي والصهيوني المباشر، وتحولت فيها من شركة تجارية إلى تنظيم ميليشياوي اقتصادي إعلامي؛ كان له النصيب الأكبر من الدعم الحكومي الأمريكي، وحصلت شركة «كونتراك» على قروض ضخمة من «وكالة التنمية الدولية» للمساعدات الاقتصادية؛ الداعمة للسياسة الخارجية الأمريكية، و«شركة التمويل الدولية» الذراع التمويلي لـ«البنك الدولي».
وفازت الشركة بصفقات أمريكية كبرى في المقاولات والمشروعات العامة، والأهم هو ما قامت به في مجال مهمات وتوريدات وزارة الدفاع الأمريكية، وحققت من وراء ذلك أرباحا فاحشة. وعاونت شركة «كونتراك» شركة «أوراسكوم للإنشاء والصناعة» من الباطن، في تنفيذ عقود وزارة الدفاع الأمريكية، وبلغت قيمة تلك المقاولات التي نفذت في مصر والبحرين وقطر وروسيا 467 مليون دولار في تسعينيات القرن الماضي فقط، ولدى «كونتراك» مشروعات حاليا في مصر وقطر وروسيا والبحرين، وافتتحت مكاتب ومقار فرعية لها في القاهرة وتل أبيب والدوحة. ومن الطبيعي أن يكون «أبناء ساويرس» أول من يجدد أوراق الاعتماد المطلوبة لواشنطن وتل أبيب، ولصناع الموت، وحماة التمييز والعنصرية، ومن أهم هذه الأوراق افتتاح موسم الهجوم على قادة ورموز التحرر الوطني والقومي، وفي مقدمتهم جمال عبد الناصر، فشن نجيب ساويرس هجوما شرسا على الزعيم الراحل (انظر اليوم السابع عدد 01/ 09/ 2018‬)، و«أبناء ساويرس» يستحقون جهدا أكبر في فحص وتدقيق حقيقتهم وتوجهاتهم، والتعرف على ما قاموا به في العراق، وخدمة المجهود الحربي الأمريكي أثناء الغزو وبعده، والمساعدة في استقرار قوات الاحتلال في ربوع البلد الشقيق، وعلى أزمة نجيب ساويرس مع الحكومة الجزائرية، واختراقاته لأقطار عربية وأفريقية عدة.. وآمل أن أتمكن من ذلك.‬‬

القدس العربي

أحد, 09/09/2018 - 10:44