أميركا وقيادة العالم

سالم الكتبي

رغم التحليلات والتقديرات السياسية الغزيرة حول التعددية القطبية وزوال النفوذ الأمريكي وغير ذلك من رؤى وتصورات لها كل التقدير والاحترام، فإن الاحداث والتطورات تثبت دوماً أن الولايات المتحدة لا تزال تتربع على عرش قيادة العالم وستبقى كذلك خلال المستقبل المنظور على أقل التقديرات.

هذا مانراه حقيقة واقعة يجب أن نتعامل معها، كعرب، سواء شئنا أم أبينا، وبغض النظر عن مدى قبول البعض لسيد البيت الأبيض من عدمه، وهذا الرأي لا يعبر عن انحياز أو هوى أمريكي بل يعبر بالأساس عن رغبة في التعاطي مع الحقائق المجردة من دون انتظار لتغيرات لا تنبئ بها المعطيات، ولا تحليل بالتمني لا ينطلق من رؤى واقعية للمشهد الأمريكي.

أقول هذا الكلام لأن الولايات المتحدة تثبت للعالم أنها لا تزال تمتلك قوة "النموذج" رغم الانتقادات الحادة التي توجه لإدارة الرئيس ترامب وما تسببت فيه من إضرار بالقيم والمبادئ الأمريكية بحسب ما يعتقد فري قمن الباحثين والمتخصصين؛ إذ علينا أن ننتبه كثيراً لما يحدث في المشهد الأمريكي الداخلي، سيما صدور كتاب "الخوف: ترامب في البيت الأبيض"، للصحفي الأمريكي الأشهر بوب وودورد،  الذي حظي باهتمام امريكي وعالمي غير مسبوق حتى قبل صدوره، حيث يتلهف عشرات الملايين حول العالم لمعرفة تفاصيل ما ورد في هذا الكتاب، الذي بات ما ينشر عنه مادة دسمة تتلقفها التقارير الصحفية والإعلامية حول العالم.

بغض النظر عما ورد في هذا الكتاب الذي سيصدر في غضون أيام، فإنه يعتبر مثالاً بارزاً على قوة النموذج الأمريكي، فهو يتعلق برئيس قوي لا يزال في السلطة وعرف عنه خصومته الشديدة لمعارضيه ومنتقديه، ولكن الكتاب يكشف ما يعتبره المؤلف حقائق أوردها على لسان مسؤولين أمريكيين كبار يعملون داخل البيت الأبيض وإلى جانب الرئيس ترامب، وينقل عن عدد من مقربي ومساعدي الرئيس ترامب وصفهم له بالأحمق والكذاب! بل ويزعم وجود فوضى وغياب للنظام داخل البيت الأبيض لدرجة أن قرارات الرئيس تختفي من مكتبه بمعرفة مستشارين كبار لمنعه دون توقيعها تفادياً للإضرار بالمصالح القومية الأمريكية، ناهيك عن الزعم بأن وزير الدفاع ماتيس قد خالف أوامر الرئيس باغتيال الرئيس السوري واعد خطة بديلة لهذه الأوامر! حيث نقل الكاتب ـ بحسب تقارير إعلامية منشورة ـ عن ترامب مخاطبته لماتيس "دعنا نقتله، لنذهب إلى هناك ونقتله حيث هو، دعنا نقتل عددا كبيرا منهم"، فرد ماتيس على ترامب بالموافقة على طلبه، لكن بعد انتهاء المقابلة مع ترامب أكد ماتيس لأحد مساعديه إنه لن ينفذ شيئا مما طلبه ترامب.

لم تقتصر المسألة على كتاب "الخوف" بل امتدت لتشمل مقالاً ذُيل بتوقيع مجهول نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" وقالت إن كاتبه مسؤول كبير في البيت الأبيض، يشير في مقاله إلى أن هناك "جبهة مقاومة" تشكلت لحماية الأمن القومي الأمريكي حتى نهاية فترة رئاسة ترامب!

وودورد صحفي أمريكي مرموق لا يمكن التكهن بأنه يغامر بتاريخه وقيمته المهنية من أجل نشر سلسلة من الأكاذيب، وهنا تكمن المفارقة الصعبة التي يواجهها الرئيس ترامب، وهنا أيضاً تكمن قوة النموذج الأمريكي متمثلة في قدرته على إدارة الخلافات بين الجميع من دون إضرار بمصالح هذه الدولة العظمى، التي تمتلك من المؤسسات ما يقدر على الإمساك بدفة الأمور وضبط إيقاع السياسة الأمريكية وقت اللزوم.

لاشك أن الملايين حول العالم ينظرون باستياء إلى سياسات الرئيس ترامب، ولكن علينا أن نعترف أن اكثر منهم بكثير لا يزالون ينظرون باعجاب إلى هذا النموذج الذي ينتج هذه التفاعلات الثرية بين السلطة والاعلام والمؤيدين والمعارضين، بحيث تصبح مصلحة الوطن هي بوصلة الجميع ومرشدهم! لا ولاءات أيديولوجية ولا انتماءات خارجية فالكل يبتغي مصلحة أمريكا، والكل يصارع من أجل حماية هذا النموذج.

هنا فقط يمكن أن نستخلص فكرة استحسان المؤسسات الامريكية المسؤولة عن التخطيط الاستراتيجي لما يدور على الساحة الداخلية من تفاعلات بين الرئيس ومنتقديه، باعتبار أن هذه التفاعلات قد اوجدت "حالة" من التوازن بين الاضرار التي لحقت بالولايات المتحدة جراء سياسات ترامب تجاه بعض الدول والقضايا، وبين الصورة الإيجابية التي انتجتها هذه التفاعلات التي ينظر إليها معارضي ترامب في الخارج بكثير من الاهتمام ويترقبون نتائجها بشغف بالغ! فلا شك أن الكثيرين قرأوا بعناية تفاصيل المكالمة الهاتفية التي جرت بين الرئيس ترامب والمؤلف وودورد، وانتهت برد الأخير على قول سيد البيت الأبيض له أن كتابه "سلبي"، فرد عليه قائلاً "أنا أؤمن ببلدنا، ولأنك رئيسي أتمنى لك حظاً وافراً".

مستقبل ترامب لن يحدده كتاب "الخوف" كما يعتقد الكثيرون، بل ستحدده انتخابات التجديد النصفي القادمة للكونجرس، والتي قد تتأثر بالجدل المحتدم حول الرئيس، وبناء على نتائج هذه الانتخابات قد يحسم الجمهوريون موقفهم حيال أي إجراءات متوقعة بشأن الرئيس ترامب، وإن كان هذا الأمر غير مرجح حتى الآن سيما أن فوز الديمقراطيين بالأغلبية في مجلسي الكونجرس لا يزال بعيد عن التوقعات.

إيلاف

اثنين, 10/09/2018 - 09:42