الحرب والصحافة الحرة

عمرو حمزاوي

حين تتعمد الحكومات منع تداول المعلومات والحقائق الكاملة بشأن قضايا السياسة الداخلية أو الخارجية في لحظات الأزمة وظروف الحروب وتتنصل من حق المواطن في المعرفة والمتابعة والتقييم، حينها لا تجد المجتمعات من سند لمراقبة الحكومات ومحاسبتها غير وسائل الإعلام الحرة والصحافة الحرة.
شيء من هذا نتابعه اليوم فيما خص حقائق الحرب الروسية على أوكرانيا حيث تنشط وسائل إعلام حرة ناطقة بالروسية للكشف عما يدور بين الجانبين الروسي والأوكراني وعن الكلفة الباهظة للحرب. والكثير من هذا تتضمنه الرسالة الأخلاقية والسياسية المباشرة للفيلم الروائي للمخرج ستيفن سبيلبرغ «البوست» (The Post) الذي شاهدته مجددا وناقشته مؤخرا مع عدد من الأصدقاء.
الإطار الزمني والمكاني الذي تدور به أحداث الفيلم هو بداية سبعينيات القرن العشرين في العاصمة الأمريكية واشنطن. والسياق السياسي هو أيضا الحرب، ولكن الحرب الأمريكية على فيتنام التي كانت آنذاك في عقدها الثالث. وقضية الفيلم هي وسائل الإعلام، تحديدا صحيفة «الواشنطن بوست» (واسم الفيلم يشير إليها)، وناشرتها كاثرين غراهام التي تجسد شخصيتها الممثلة ميريل ستريب، ومحررها بن برادلي الذي يلعب دوره الممثل توم هانكس.
في خمسينيات القرن العشرين تورطت الولايات المتحدة الأمريكية عسكريا في الهند الصينية، وأشعلت تحت يافطات «احتواء الشيوعية» حربا مدمرة على فيتنام التي تصارعت على السيطرة عليها مجموعات يمينية ساندتها واشنطن وحركات شيوعية دعمها الحزب الشيوعي الحاكم في الصين والاتحاد السوفييتي السابق. انقسمت فيتنام إلى جمهورية جنوبية خاضعة للنفوذ الأمريكي وجمهورية شمالية يدير شأنها الحزب الشيوعي الفيتنامي ولسنوات طويلة زعيمه التاريخي هو شي من.
تدريجيا، صار التورط العسكري للولايات المتحدة حربا مدمرة ووحشية ارتكبت بها جرائم مفزعة ضد الإنسانية وأسقطت مئات الآلاف من الضحايا المدنيين والعسكريين في فيتنام الجنوبية والشمالية، وشارك بها مئات الآلاف من الجنود الأمريكيين الذين سقط منهم ما يقرب من 60 ألف قتيل، وأنفقت عليها بلايين الدولارات التي كان يمكن للولايات المتحدة بشيء من الرشادة والمسؤولية أن توجهها إِما للإنفاق الداخلي أو للإنفاق الخارجي على جهود التنمية العالمية، وانتهت في 1975 بانسحاب القوات الأمريكية وانهيار جمهورية فيتنام الجنوبية وتوحد فيتنام تحت حكم الحزب الشيوعي وجمهوريته الاشتراكية.

شجاعة الصحافة الحرة أسهمت، وضمن عوامل أخرى أهمها المعارضة الشعبية المتصاعدة، في إنهاء الحرب الأمريكية على فيتنام في 1975

بين خمسينيات القرن العشرين وسبعينياته، تعاقب على البيت الأبيض رؤساء جمهوريون وديمقراطيون تفاوتت بشدة توجهاتهم في السياسة الداخلية والخارجية واشتركوا في جريمة مواصلة الحرب المدمرة على فيتنام وتجاهل الغضب المتصاعد في المجتمع الأمريكي والإدانة العالمية الكاسحة. اشترك الرؤساء هاري ترومان ودوايت أيزنهاور وجون كينيدي وليندون جونسون وريتشارد نيكسون أيضا في جريمة خداع الرأي العام الأمريكي وتزييف وعي الناس بشأن الحرب على فيتنام إما بمنع التداول الحر للمعلومات أو بإخفاء الحقائق.
في وجه الخداع وقفت الصحافة الحرة في الولايات المتحدة الأمريكية مدافعة عن حرية تداول المعلومات والحقائق وعن حرية التعبير عن الرأي، انتصارا للدور المقدس للصحافة كسلطة رابعة تراقب وتحاسب السلطة التنفيذية باسم الناس ونيابة عنهم ودفاعا عن حق المجتمع الأمريكي في معرفة ما يجري في فيتنام ومعارضة حرب ارتكبت بها جرائم مفزعة وسقط بها مئات الآلاف من الضحايا وأنفقت عليها بلايين الدولارات.
من هنا تبدأ الحكاية الواقعية لفيلم «البوست»، من مساعي صحيفة الواشنطن بوست التي كانت آنذاك صحيفة صغيرة ومحدودة الانتشار الحصول على «أوراق البنتاغون» وتلك كانت آلاف الوثائق السرية التي حوتها دراسات مفصلة أعدتها وزارة الدفاع الأمريكية في الستينيات حول الحرب على فيتنام وكشفت عن سوء الإدارة العسكرية والسياسية للحرب وانتهت إلى فشل الولايات المتحدة في تحقيق أهدافها وحتمية إنهاء الوجود العسكري الأمريكي في فيتنام والهند الصينية. في 1971، حققت صحيفة النيويورك تايمز سبق نشر بعض «أوراق البنتاغون» التي وثقت خداع الرؤساء الأمريكيين المتعاقبين للرأي العام وكشفت الكثير من أسرار الحرب.
غير أن إدارة الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون استصدرت أمرا قضائيا بوقف النشر في التايمز بادعاء تهديد الأمن القومي والمصالح الوطنية، وامتثلت التايمز. فما كان من الواشنطن بوست، لشجاعة ناشرتها كاثرين غراهام (وهي كانت السيدة الأولى التي أصبحت ناشرة لصحيفة يومية أمريكية) وجراءة محرريها، سوى أن واصلت النشر وواجهت إدارة نيكسون قضائيا بنجاح. ثم انضمت «البوست» إلى النيويورك تايمز في دعوى قضائية أمام المحكمة الدستورية العليا للدفاع عن حق الصحف في مراقبة ومحاسبة الحكومات وفي نشر المعلومات والحقائق. حكمت الدستورية العليا الأمريكية لصالح لصحيفتين وسمحت بنشر «أوراق البنتاغون»، ورفضت محاولات إدارة نيكسون إيقاف النشر.
شجاعة الصحافة الحرة أسهمت، وضمن عوامل أخرى أهمها المعارضة الشعبية المتصاعدة، في إنهاء الحرب الأمريكية على فيتنام في 1975. يحمل فيلم «البوست» الكثير من الاسقاطات السياسية على الوضع الراهن في روسيا وأوكرانيا وعلى أوضاع مجمل الأطراف المتحاربة في عالم اليوم الذي نتمنى أن تنجح به الصحافة الحرة في إيقاف حروبه والحد من جنونه.

نقلا عن القدس العربي 

ثلاثاء, 27/09/2022 - 09:20