يفترض أن يمثل اليوم الأربعاء الصحافي التونسي محمد بوغلاّب أمام المحكمة للنظر في قضيته لكنه قبل ذلك بخمسة أيام بعث برسالة إلى الرأي العام يقول فيها: »لا أطلب سوى محاكمة عادلة دون تدخل الأيادي الخفية… وأنا متمسك بحضور جلسة المحاكمة المعينة ليوم 17 أبريل 2024 ومستعد للذهاب إلى المحكمة زحفا أو حتى على كرسي متحرك، وفي صورة التلاعب أو منعي من الحضور لأي سبب كان فإنه ليس أمامي سوى الامتناع كليا ونهائيا عن تناول أدويتي (سكّري وارتفاع ضغط الدم والقلب) ثم الدخول في إضراب جوع وحشي من أجل المثول أمام القضاء».
لم يجد الرجل بدا من أن يطلق مثل هذه الصرخة بعد أن كان أخذ خلال توقيفه إلى المستشفى ومنع من حضور جلسة محاكمته التي عقدت على عجل دون حضور محامين. صحافية أخرى هي شذى الحاج مبارك تقبع هي أيضا في الإيقاف منذ أكتوبر/تشرين الأول 2021 في وضع صحي سيئ للغاية. ومع أن قاضيا أصدر حكما بالإفراج عنها في يونيو/حزيران الماضي إلا أنه تم في يوليو/ تموز الماضي إصدار بطاقة إيداع جديدة بالسجن في حقها لتبقى رهينة هناك دون المثول أمام محكمة للحسم في قضيتها ذات علاقة بعملها الإعلامي هي أيضا.
وإلى اليوم يقبع كذلك عدد من القيادات السياسية المعارضة من مشارب مختلفة وراء القضبان في ما عرف بقضية «التآمر على أمن الدولة» دون أن يجري التحقيق معهم، ولا عرضهم على المحكمة، وحين اقترب الموعد الأقصى للاحتفاظ بهم وهو 14 شهرا ووجوب الإفراج عنهم فورا انطلقت تحركات على عجل لمنع ذلك، ما دعا حزب «التيار الديمقراطي» الذي يوجد زعيمه السابق غازي الشواشي من بينهم إلى إصدار بيان حذّر فيه «من الخضوع للتعليمات للتلاعب بملف القضية بغاية ختم الأبحاث فيها وتوجيه تهم واهية بعد استيفاء 14 شهرا كاملة من الإيقاف» معتبرا أن «مواصلة اعتقال هؤلاء القادة السياسيّين يوما واحدا في السجن بعد هذه المدّة سيُعتبر احتجازا تعسفيا خارج القانون يجرّمه القانون التونسي والاتفاقات الدولية». ومع أن هؤلاء لم يخضعوا للتحقيق ولم يمثلوا أمام القضاء لكن رئيس الدولة واصل التشهير بهم بالقول إن «التمطيط (في قضيتهم) مكّنهم من التآمر مرة أخرى على أمن الدولة من وراء القضبان» ما يطرح السؤال عن ماهية هذه «المحاكمة العادلة» التي قال إنه «آن أوانها».
في ظل غياب تحرك داخلي قوي لوقف هذا التوظيف غير المسبوق للقضاء في خدمة السلطة السياسية تحركت بعض الدوائر في الخارج فأصدرت بعض الهيئات بيانات تدين هذا الوضع
هؤلاء على الأقل عرفت قضاياهم في حين يقبع عشرات آخرون في السجن دون أن نعرف بالضبط سلامة ما جرى بحقّهم ما دعا بعض الأصوات إلى الارتفاع مطالبة القضاء التونسي بالنأي بنفسه عن الخلافات السياسية وعن قضايا حرية التعبير والإعلام لاسيما وأن هذا القضاء لم يعد يحترم، برأيها، الحد الأدنى من سلامة الإجراءات والآجال القانونية مستقويا في ذلك بالسلطة الحاكمة ليس إلا.
حالة لم تعرف من قبل بهذه الفجاجة خلال حكمي الرئيسين الراحلين بورقيبة وبن علي إلى درجة أن الرئيس قيس سعيّد اعتبر كل قاض يبرّئ موقوفا من القيادات المعارضة «شريكا لهم».
وقد اتهمت مؤخرا جمعية القضاة التونسيين وزارة العدل «بإشاعة أجواء الخوف والرعب والترهيب وانعدام الأمان في الوسط القضائي بغاية مزيد إحكام القبضة على القضاء والتحكم فيه على حساب حقوق المتقاضين والمواطنين والمصلحة العليا للوطن».
ما جعل هذا الخوف يستشري أكثر أن كل قاض يرفض التعليمات يعزل مباشرة، فضلا عن أن القضاة المعزولين في موجة العزل الواسعة التي قام بها الرئيس في يونيو/ حزيران 2022 لم تشفع لهم المحكمة الإدارية حين قررت إعادتهم فقد رفضت السلطة الانصياع لقرارات هذه المحكمة التي كانت محل تقدير واحترام، فضلا عن غياب المحكمة الدستورية التي كان يمكن الرجوع إليها كملاذ قانوني أخير.
وتقول المعارضة إن القضاء الذي يصفونه بـ«قضاء التعليمات» يتحرك دائما بسرعة لملاحقة النشطاء المعارضين والصحافيين والمدوّنين لكنه لا يحرك ساكنا حين ترتكب تجاوزات رهيبة من أنصار الرئيس على مواقع التواصل ووسائل الإعلام بلا أية محاسبة.
كل ذلك ساهم في ظهور جملة خطيرة للغاية يردّدها القضاة الخاضعون للتعليمات وهي «تبكي أمّه ولا تبكي أمّي» بمعنى الاستعداد لظلم الناس جهارا نهارا فيبكي المظلوم وأهله أفضل من أن يبكي القاضي وأهله إن هو عزل بعد أن حكّم القانون وضميره.
وفي ظل غياب تحرك داخلي قوي لوقف هذا التوظيف غير المسبوق للقضاء في خدمة السلطة السياسية تحركت بعض الدوائر في الخارج فأصدرت بعض الهيئات بيانات تدين هذا الوضع إلى درجة إعداد قائمة أوّلية بأسماء قضاة مورّطين في هذا التمشي تم رفعها إلى المقرر الخاص المعني باستقلال القضاة والمحامين والفريق العامل المعني بالاحتجاز التعسفي وغيرهما.
من المؤلم أن تونس التي أنجبت العلاّمة عبد الرحمان ابن خلدون صاحب المقولة الخالدة «العدل أساس العمران» هي نفسها التي لا يستحي بعض قضاتها اليوم من ترديد «تبكي أمّه ولا تبكي أمّي»!!
نقلا عن القدس العربي